فهمي هويدي

الصعود التركي المشهود من دلائل مكر التاريخ. كانت تلك خلاصة ما قلته حين دعيت للمشاركة في جلسة خصصت للشأن التركي، في ندوة دعا إليها laquo;منتدى الجزيرةraquo; في الأسبوع الماضي، كان عنوانها laquo;الرؤى البديلة للعالم العربي والإسلاميraquo;. خلاصة الفكرة التي أردت توصيلها هي أن كل الشواهد كانت تدل على أن التاريخ ماضٍ في اتجاه معين، وأن العالم العربي بدا وكأنه مرشح للافتراس وقابل للفتك والانقضاض، ولكن الظهور التركي المفاجئ قلب الطاولة، وأربك الحسابات والسيناريوهات المرشحة، فالاتحاد السوفييتي انهار والعرب أصبحوا بلا صديق والولايات المتحدة متورطة في أفغانستان والعراق وفى أزماتها الداخلية، وإيران محاصرة ومصنفة أمريكيا في laquo;معسكر الشرraquo; ومصر انكفأت على ذاتها وخرجت من المشهد العربي، إضافة إلى أن النظام العربي انهار والدول العربية أصبحت معسكرين متنافرين ما بين الاعتدال والممانعة، أما القضية الفلسطينية فقد تراجعت أولويتها وتعاملت معها أغلب الأنظمة باعتبارها عبئا تريد الخلاص منه والتحلل من تبعاته، فضلا عن أن السلطة الفلسطينية باتت عاجزة عن الفعل والحركة، وأصبح اعتمادها على الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل أكثر من تعويلها على الشعب الفلسطيني والتأييد العربي.
لم يقف الأمر عند حدود التغيير في الخرائط السياسية، ولكنه شمل أيضا بعض القيم السائدة، فالمقاومة صارت مستهجنة من قبل بعض الأنظمة وإرهابا عند أنظمة أخرى. والتطبيع مع إسرائيل أصبح وجهة نظر يتبناها البعض ويرفضها آخرون والاستتباع للولايات المتحدة صار مرحبا به، والقواعد العسكرية الأجنبية لم تعد شذوذا ولا خطيئة، وفى ظل شعار بلدنا أولا مصر والأردن أو لبنان وغير ذلك أصبح التفريط في الأمن القومي العربي أمرا مقبولا ومحتملا. بل إن فكرة التحرر الوطني ذاتها أصبحت ملتبسة وغريبة على بعض الأذهان، إلى غير ذلك من القرائن التي تدل على مدى الوهن والفساد في الوضع العربي، الذي كانت الأزمة- الفضيحة التي شوهت العلاقة بين مصر والجزائر بسبب مباراة كرة القدم من تداعياته.
في هذا الأجواء ظهر حزب العدالة على المسرح، وشكلت قيادته الحكومة في عام 2003 بأغلبية مشهودة، فخطفت الأبصار، خصوصا حينما أدرك الجميع عزم القيادة الجديدة على القيام بدور فاعل في المنطقة، ثم حين تبنت موقفا نزيها إزاء القضية الفلسطينية، وهو ما كان له صداه ورنينه القوي في الفضاء والحيرة المخيمين، عززت من أهمية ذلك الدور أربعة عوامل، الأول أن الحكومة جاءت مستندة إلى أغلبية شعبية قوية، لم تكن مألوفة في الساحة التركية، الأمر الذي شجعها على أن تتحرك باطمئنان وثقة معتمدة على ذلك التفويض الشعبي الواسع.
الأمر الثاني أن النموذج الذي قدمه حزب العدالة بخلفيته الإسلامية لقي قبولا من الناس. ذلك أنه لم يخاطب الجماهير بلغة الوعظ والإرشاد، لكنه بنى مشروعه ورصيده على السعي الدؤوب لنفع الناس وتلبية احتياجاتهم، ولذلك كان تركيزه على الانجاز الاقتصادي ضمن أولوياته.
الأمر الثالث أن الحزب بأدائه أسقط معادلة التعارض بين الإسلام والديموقراطية، حيث خاض الانتخابات البلدية أولا والتشريعية ثانيا منطلقا من التسليم بقواعد اللعبة الديموقراطية ومبادئها.
الأمر الرابع أن حكومة حزب العدالة اتجهت إلى المحيط العربي والإسلامي، دون أن تفرط في حرصها على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، صحيح أنها بدأت بمجالات التعاون الاقتصادي، وسعت إلى إلغاء تأشيرات الدخول مع أربع دول عربية هي سوريا ولبنان والأردن وليبيا، لكنها ما لبثت أن أصبحت حاضرة بقوة في مختلف عناصر المشهد السياسي.
إن الديموقراطية هي التي مكنت حزب العدالة من تطوير وإنضاج مشروعه وبرنامجه السياسي، وهي التي جاءت به إلى البلديات أولا ثم إلى البرلمان ورئاسة الحكومة بعد ذلك. وهي التي فرضت على قيادة الحزب ممثلة في عبد الله جول رئيس الجمهورية ورجب طيب أردوغان رئيس الوزراء أن يعبرا عن مشاعر الناس وغضبهم، خصوصا إزاء الموضوع الفلسطيني، الذي أصبح أردوغان من أفضل المتحدثين عنه، ومن ثم فإن الديموقراطية حين أخذت على محمل الجد (لا تقارن من فضلك) كانت عنصرا فاعلا في إفساد المخططات والسيناريوهات المرسومة في الخارج، وجعلت المجتمع مساهما في صنع التاريخ وليس متفرجا عليه.