مالك التريكي

أعجب عنوان تقرأه في الـ'نيويورك تايمز' قبل أسبوع فقط من التاسع والعشرين من الشهر، يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، يقول: 'الإدارة الأمريكية أشد استعجالا لتحقيق السلام من الفلسطينيين والإسرائيليين أنفسهم'. أعجب عنوان بمنطق العقل. لكنه أنسب عنوان لمنطق العصر الغرائبي. إذ لا غبار الآن على حقيقة أن 'عملية السلام' قد تحولت إلى مسألة أمريكية بحتة لا تهم إلا الإدارة، ولاعتبارات لا قيمة لها إلا عند الإدارة. أي أنها صارت مسألة داخلية، بل عائلية، يقتصر الاهتمام بها على جناح في البيت الأبيض وقسم في وزارة الخارجية. لكن رغم ذلك فإن المسألة ليست لها أهمية، حتى عند هذه الإدارة الحريصة المستعجلة، إلا بمقدار ما يمكن استخدامها واغتنامها في الوصول إلى ما هو - في نظر الإدارة - أهم وخير وأبقى. ليس لمسألة 'عملية السلام' هذه من أهمية لدى الإدارة إلا بمقدار ما يمكن التوسل بها (لدى العرب) أداة، والتعلل بها (لدى الإسرائيليين) ذريعة لتحقيق مآرب أخرى.
معنى هذا أن أهمية مسألة 'نزاع الشرق الأوسط' (حسب التسمية المحايدة البريئة) لا تتأتى إلا من شدة الرغبة الإدارية في التخلص منها! فواشنطن تريد التخلص من النزاع تخلصا نهائيا لا أثر فيه حتى لمجرد الذكرى. ليس لأن الإنسانية لا تقرّ السطو المسلح على جغرافيا الشعوب والسطو المؤدلج على تاريخها. وليس لأن هذا زمن العلم الكوني المبين الذي لا متسع فيه لدول إثنية دينية مبنية على أساطير الأولين. هذه اعتبارات خارج الموضوع. بل كل ما في الأمر أن المكلفين بـ'الملف' في واشنطن يطمحون إلى حل. أي حل. بأسرع ما يمكن. وكيفما اتفق. حتى يتسنى لأمريكا الرسمية الانتقال لمواضيع أخرى. مواضيع أهم: حرب على العراق وأفغانستان. حشد للحرب على إيران. إدمان للحرب على الإرهاب والكباب. ذلك أن أمريكا الرسمية قد مضت بعيدا في التحلل من 'نزاع الشرق الأوسط' عبر خصخصته و'تحريره' من قرارات الشرعية الدولية (بدءا بقرار التقسيم - أي مناصفة الأرض بين الشعبين- الصادر يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947). أما الآن فإن أمريكا الرسمية تروم استكمال آخر خطوات تصفية القضية الفلسطينية عبر تغييبها عن الضمير العالمي ثم تذويبها في محلول عملية سلام... ثانوية تفصيلية. والأمل وطيد في أنه ما أن يشرب النظام الرسمي العربي من هذا المحلول الحلال حتى ينخرط مع أمريكا الرسمية في جميع حروبها الأساسية المفصلية.
ورغم أن البشرية كلها (إلا القليل عربيا) تعرف أن 'حل الدولتين' قد اختطفته يد المنون من قبل حتى أن يخرج من عالم الظلال في كهف أفلاطون، فإن واشنطن لا تزال متشبثة برجاء أنضجته أشهر طويلة من البهتان البيروقراطي بأن يتحقق أخيرا حلمها بمبادلة (العرب) السلام النهائي الأبدي مقابل وقف (إسرائيل) ماكينة ابتلاع الأرض. لا وقفا عابرا عارضا، بل وقفا مستديما دوام تسعين يوما بالتمام والكمال. تسعون يوما هي كفيلة، بفضل طولها السرمدي، بأن تحلّ بألاعيب الزمان إشكاليات المكان والجغرافيا السياسية. تسعون يوما هي، في علم التقدير والحساب عند موظفي أوباما وكلينتون، أطول من أعمار الأمم: تفنى فيها أجيال منتهية الصلاحية التفاوضية والتصالحية وتنشأ أجيال جديدة لا عهد لها بصراع أو نزاع ولا متسع في قلبها إلا لمذلة المحبة.. ومن الحب ما أذلّ. تسعون يوما في التقويم الأمريكي الإسرائيلي هي كألف سنة مما تعدّون أيها العرب.
قسمة عادلة إذن: الامتناع عن ابتلاع الأرض ثلاثة أشهر مقابل أبدية السلام النهائي مقترنا بضمان استمرار التفوق التكنولوجي، مضافا لعشرين طائرة حربية بثلاثة مليارات دولار مع بوليصة تأمين ضد غوائل أمم غير متحدة إلا في حقدها على 'دولة اليهود'. هذا هو الفهم الأمريكي. فهم سابق لعصره لأنه لاحق لاهث على الوقائع التي تفرضها إسرائيل على الأرض. وقد شاءت المصادفة، ويا لغرابة المصادفات، أن تكون لهذه الأرض بالذات علاقة ما بالسلام! إلا أن هذا الأمر العجيب ليس ذنب 'عملية السلام'، طبعا، بل هو ذنب من لم يقدم إلا 99' من التنازلات ولم يفهم أن المقصود بعملية السلام إنما هو نظريتها. نظرية السلام التي أبدعها على عجل رجل اسمه شامير كانت قد اضطرته حيثيات الحرب الأمريكية الأولى على العراق وبعدياتها إلى المشاركة، على كره منه، في مؤتمر من المؤتمرات الكثيرة التي تعقد في مدريد.