لأول مرة في تاريخ البابوية، يقدم البابا فرنسيس سيرة ذاتية استثنائية تحمل عنوان "الأمل". كان من المقرر أن ينشر هذا الكتاب بعد وفاته، لكنه اختار أن يشاركه مع العالم الآن، ليكون شهادة حية على إيمانه وشجاعته. يحمل الكتاب وعدًا بدفء خاص، ولمسات من الدعابة، ورسالة أمل تعبر عن روح البابا.

إيلاف من لندن: في كتابه الجديد "الأمل" الذي يصدر في 14 كانون الثاني (يناير) المقبل عن دار النشر الإيطالية "موندادوري"، يكشف البابا فرنسيس، بالتعاون مع الكاتب الإيطالي كارلو موسو، عن تفاصيل عميقة من حياته، تتنوع بين لحظات طفولته في الأحياء المتواضعة في بوينس آيرس إلى زيارته التاريخية للعراق، حيث واجه تهديدات حقيقية بالاغتيال.

من أحياء بوينس آيرس المتواضعة إلى أنقاض الموصل، ومن أحلام أميركا اللاتينية إلى عرش الفاتيكان، يروي البابا قصته بتفاصيل ملهمة ورؤى جريئة حول القضايا الكبرى لعصرنا، من الحرب في أوكرانيا إلى التحديات البيئية التي تهدد كوكبنا.
تنشر إيلاف مقتطفات من الكتاب الذي سيتوفر في أكثر من 100 دولة حول العالم، لتكشف عن تفاصيل غير مسبوقة حول حياة البابا.
رسالة عابرة للزمن
يستهل البابا فرنسيس مذكراته بالقول: "الكتاب ليس مجرد قصة خاصة بي، بل هو شهادة على رحلة مشتركة. في كل صفحة، تجدون آثار أولئك الذين رافقوني، وأولئك الذين سبقوني، وأولئك الذين سيأتون بعدي".
العراق... حين يصبح الموت رفيقًا للسلام
كانت زيارة البابا فرنسيس إلى العراق عام 2021 حدثًا تاريخيًا بكل المقاييس، ولكن خلف الكواليس، كانت الرحلة تحمل خطرًا مميتًا. يكشف الكتاب أن الاستخبارات البريطانية أبلغت الشرطة العراقية عن خطط اغتيال محكمة فور وصول البابا إلى بغداد. تم رصد امرأة تحمل حزامًا ناسفًا متجهة نحو الموصل، بالإضافة إلى شاحنة ملغومة كانت تستهدف موقعًا آخر في جدول الزيارة.
في الكتاب، يروي البابا لحظة سؤاله عن مصير منفذي الهجوم، وجاءت الإجابة الصادمة: "لم يعودوا هنا". الشرطة العراقية اعترضتهم وقتلتهم. يصف البابا هذه اللحظة بأنها "ثمار الحرب المسمومة".
ورغم هذه التهديدات، أصر البابا على المضي قدمًا، مشيرًا إلى أن زيارته كانت واجبًا تجاه الشعب العراقي الذي عانى من ويلات الحرب.
يقول:"لم أستطع أن أتخلى عنهم. شعرت بأن وجودي هناك واجب، حتى وإن كان ذلك يعني المخاطرة بحياتي".
الموصل: سهم إلى قلب البابا
الرحلة إلى الموصل كانت واحدة من أكثر اللحظات تأثيرًا في حياة البابا فرنسيس. الموصل، التي كانت مركزًا للحضارة والتعايش بين مختلف الثقافات والأديان، بدت له كأنها صورة من الخراب الشامل.
يصف المشهد من الجو قائلاً: "في كل زاوية، كان الدمار شاهدًا صامتًا، والكراهية تجول كنبض خفي في الأرجاء. بدت المدينة وكأنها عارية أمام أشعة سينية تفضح جوهر الخراب وتفاصيله".
وسط أنقاض كنيسة دمرها الإرهاب، وقف البابا يدعو إلى التسامح وإعادة البناء. يقول: "التسامح وحده هو الطريق الذي يقود إلى السلام. الموصل لن تُعاد إلى الحياة بالحقد، بل ستنهض من رمادها بالمحبة".
كلمات قالها من فوق الركام لتلهم الكثيرين في العراق وخارجه لإعادة النظر في أهمية التصالح مع الماضي.
لقاء السيستاني: خطوة نحو الأخوة الإنسانية
الجزء الأهم من زيارته للعراق كان لقاءه بآية الله العظمى علي السيستاني في النجف. اللقاء، الذي تم في منزل متواضع، لم يكن مجرد اجتماع بين قائدين دينيين، بل كان خطوة رمزية للتقارب بين الأديان.
في الكتاب، يعبر البابا عن عمق تأثير هذا اللقاء، قائلاً: "كانت لحظة نابضة بالمعاني في قلب الشرق، جسّدت بعمق حقيقة أننا جميعًا إخوة تجمعنا الإنسانية". السيستاني بدوره أرسل رسالة قوية للعالم: "البشر، إما إخوة تجمعهم عقيدة واحدة، أو متساوون يشتركون في جوهر الخلق الإنساني".
هذا اللقاء كان تتويجًا لعقود من الجهود الفاتيكانية لتعزيز الحوار بين الأديان، وأرسل رسالة أمل وسط الحروب والانقسامات.
الجذور الأولى للإيمان
يعود الكتاب إلى جذور البابا فرنسيس في حي فلوريس في بوينس آيرس، حيث نشأ في بيئة متعددة الثقافات والأديان. يصف الحي بأنه "عالم مصغر" تعلم فيه أن الاختلاف ليس سببًا للفرقة، بل فرصة للتعلم والتعايش.
كانت تلك الطفولة مليئة بالمشاهد الإنسانية التي أثرت فيه. يروي كيف كان يشاهد عاملات الجنس في الشوارع، ووصفهن بأنهن يمثلن "الجانب الأكثر ظلمة والأشد قسوة في معترك الوجود".
لاحقًا، ككاهن، عمل مع العديد منهن وساعدهن على تغيير حياتهن. إحدى هؤلاء النساء، بوروتا، أصبحت رمزًا للتحول، حيث كرست حياتها لرعاية كبار السن.
هذه التجارب شكلت رؤية البابا للإيمان كوسيلة للالتقاء بالآخر، بغض النظر عن خلفيته أو أخطائه.
رسالة البابا للعالم
الكتاب يسلط الضوء على عمل البابا في الأحياء الفقيرة في الأرجنتين، حيث عاش بين المهمشين وشاركهم آلامهم. كان يؤمن أن الكنيسة يجب أن تكون في قلب هذه المجتمعات، حيث قال: "على هامش الحياة، أدركت أن الفقراء ليسوا فقط من ينتظرون عوننا، بل هم من يمنحوننا معنى وغاية لحياتنا".
هذه الرؤية للإيمان كانت الدافع وراء زيارته للعراق، حيث أراد أن يكون قريبًا من أولئك الذين عانوا من الحرب والإرهاب.
الدين ليس أفيون الشعوب!
في الكتاب، يرد البابا على الفكرة الشائعة بأن الدين مجرد وسيلة لتخدير الشعوب. يقول: "الإيمان ليس حكاية مريحة تُروى، بل هو لقاء حي مع الآخر، وواجب يحمل في طياته مسؤولية عميقة تجاه المجتمع".
ويشير إلى أن التقدم الذي شهدته المجتمعات المهمشة في الأرجنتين، وحتى في الموصل، لم يكن ممكنًا لولا الالتزام الرعوي والمدني المستمد من الإيمان.
سنوات من العمل
استغرق إعداد كتاب "الأمل" ست سنوات كاملة، بدأت في عام 2019، ما يعكس عمق التجربة والجهد الذي بذله البابا فرنسيس بالتعاون مع الكاتب الإيطالي كارلو موسو. وُصف الكتاب بأنه "مغامرة طويلة ومكثفة"، تُوِّجت بسرد دقيق وحميمي للتفاصيل الشخصية واللحظات الفاصلة في حياة البابا.
عام اليوبيل 2025
يتزامن إصدار كتاب "الأمل" مع احتفالات عام اليوبيل 2025، وهو حدث كاثوليكي نادر يُقام كل 25 عامًا، مخصص للتسامح والتجديد الروحي. كان من المفترض أن يُنشر الكتاب بعد وفاة البابا فرنسيس، ولكن الحاجة الملحة لتعزيز رسالة الأمل في وقت يشهد أزمات عالمية دفعت البابا لاتخاذ قرار استثنائي بنشره في عام اليوبيل 2025.
صور ومواد لم تُنشر من قبل
يتضمن الكتاب صورًا حصرية لم تُنشر من قبل، تمثل محطات مختلفة من حياة البابا فرنسيس. هذه الصور ليست مجرد إضافة جمالية، بل تُكمل السرد وتوفر للقراء فرصة للتواصل المباشر مع حياة البابا ومسيرته.
يتولى نشر الكتاب عالميًا "Penguin Random House"، بينما يتولى الناشر البريطاني "Viking" إصدار النسخة المترجمة إلى الإنكليزية، التي أعدها المترجم ريتشارد ديكسون. وسيُطرح الكتاب في 80 دولة بلغات متعددة، ليصل إلى جمهور واسع من مختلف الثقافات.
سلسلة مؤلفات فرنسيس
يأتي كتاب "الأمل" كإضافة مميزة لسلسلة من المؤلفات السابقة للبابا فرنسيس، مثل كتاب "دعونا نحلم" الذي كتبه خلال جائحة كورونا، وكتاب "حياة: قصتي من خلال التاريخ" الذي استعرض فيه أبرز محطات القرن العشرين من وجهة نظره الشخصية.
ومع ذلك، يُعتبر "الأمل" أول سيرة ذاتية شاملة يقدمها البابا بنفسه.