ويليام رو

استرعت المراسلات المسربة مؤخراً من قبل موقع ويكيليكس انتباه العالم بأسره لما حملته من تفاصيل كانت تعتبر في عداد المعلومات السرية، وهي لذلك حظيت بتغطية إعلامية واسعة واهتمام رسمي كبير، لكن رغم الحرج الذي أحدثته الوثائق المسربة لدى دوائر القرار الأميركية ذهب بعض المعلقين إلى أن الحكومة الأميركية ضالعة في تسريب البرقيات وكشف المستور، فهم اعتبروا أن الولايات المتحدة بكل قوتها والإمكانات المتوفرة لديها لجمع المعلومات والتحكم فيها لا يمكن أن يمر هذا العدد الهائل من الوثائق والمقدر بربع مليون وثيقة تحت أنف الاستخبارات الأميركية دون ضوء أخضر من أوباما نفسه لهدف ما. والحال أن هذا الافتراض خاطئ تماماً، فالمسألة أكثر تعقيداً من نظرية المؤامرة التي يلجأ إليها البعض لتفسير ما جرى، لأن الأمر متعلق بطبيعة العلاقة غير الودية في الكثير من الأحيان بين الحكومة والإعلام الأميركيين، تلك العلاقة القائمة أساساً على الخصومة والتنازع. وبموجب هذه العلاقة يعتقد المهنيون في وسائل الإعلام المختلفة أنه من واجبهم رصد ما تقوم به الحكومة وكشف الأسرار التي تسعى إلى إخفائها ما داموا معنيين بممارسة الرقابة على النشاط الحكومي ومحاسبة المسؤولين الرسميين، والحقيقة أن العديد من الأميركيين العاديين يتعاطفون مع هذا الرأي ويساندون جهود وسائل الإعلام في كشف المعلومات التي تتيح لهم التعرف عن كثب على ما تقوم به الحكومة ومراقبة تجاوزات بعض مسؤوليها لأن ذلك من صميم النظام الديمقراطي.

ويضاف إلى ذلك أن الرأي العام ليس على علم بالمعلومات التي تعتبرها الحكومة سرية ويتشكك في أن يعمد المسؤولون إلى إخفاء الأخطاء والهفوات بدعوى أنها تندرج في إطار المعلومات السرية التي تمس الأمن القومي. أما الحكومة فهي تبذل جهوداً كبيرة لضمان أن الدبلوماسيين وباقي المسؤولين الذين بحكم عملهم يطلعون على المعلومات، لن يكشفوا عنها في وقت من الأوقات من خلال إخضاعهم أولاً وقبل توظيفهم إلى فحص أمني صارم للتأكد من ولاءاتهم، هذا بالإضافة إلى أدائهم قسم الحفاظ على أسرار الدولة وعدم عرضها على الملأ، وهم بموجب هذا التعاقد لا يحق لهم كشف المعلومات السرية لغير الجهات المخولة بذلك. لكن اختلاف وجهات النظر بين الحكومة من جهة والإعلام من جهة أخرى، حول طبيعة المعلومات ومدى سريتها، هو ما يثير الجدل ويخلق التباين في المواقف بين الضغوط التي يمارسها الصحفيون والإعلاميون على مصادر حكومية لكشف ما لديهم وتنوير الرأي العام كجزء من السلطة الرابعة للإعلام التي تخولها لهم الديمقراطية وبين اعتبارات الأمن القومي التي يصر عليها الرسميون، وفي أغلب الأحيان يكون هذا التجاذب صحياً بالنسبة للديمقراطية الأميركية إذ يبقى الشعب على علم بدواخل الأمور التي تتيح له تقييم العمل الحكومي وتكوين رأي حول ما يجري دون تعريض المصالح العليا للبلد لأي ضرر مترتب على ذلك. هذا الاتفاق الضمني بين الإعلام والمسؤولين يدفع الحكومة إلى توخي أعلى درجات الشفافية الممكنة تجنباً لأية فضائح قد تكون تكلفتها السياسية مرتفعة.


لكن مع ذلك يتعرض الاتفاق الضمني بين الحكومة والإعلام لاختبار حقيقي عندما يحصل أحد الصحفيين على معلومات مهمة يراها صالحة للنشر ويخالفه المسؤولون الحكوميون الرأي بحيث يسعون إلى وقف النشر، وهو ما حصل مع وثائق ويكيليكس التي عرفت الحكومة قبل عدة أشهر أنها على وشك الظهور إلى العلن، لاسيما وزارة الخارجية التي تخوفت من المراسلات السرية التي كان يبعث بها دبلوماسيوها وتضم معلومات حول اجتماعاتهم مع قادة الدول. وخلال المفاوضات الشاقة التي دارت بين وزارة الخارجية ووسائل الإعلام التي عبرت عن رغبتها في نشر الوثائق المتحصل عليها، وجدت المؤسسات الإعلامية نفسها في حيرة من أمرها بين إطلاع الرأي العام على ما تضمه الوثائق من معلومات حساسة وبين التخوف من أن يؤدي نشرها إلى ضرب المصالح الأميركية والنيل من ثقة العالم بالدبلوماسيين الأميركيين. وفي هذا السياق، وتجنباً للمتابعة القضائية في حال نشر معلومات سرية تمس أمن الدولة، ارتأت وسيلتان إعلاميتان نشر ما لديهما بالتزامن لتعزيز الموقف الإعلامي وجعل الأمر صعباً على الحكومة التي لا تستطيع فتح جبهات متعددة على وسائل إعلامية عديدة حتى ليبدو الأمر وكأنها تسعى إلى تكميم الصحافة، وهو ما يتعارض على كل حال مع البند الأول في الدستور الأميركي الذي يكفل حرية التعبير ويجعلها أساساً للنظام الديمقراطي الأميركي. ومع ذلك ظلت ردود الفعل بعد نشر الوثائق في الصحافة ووصولها إلى الرأي العام متضاربة بين من اعتبرها جديدة للغاية وتحمل معلومات غير مسبوقة تضيء العديد من الجوانب المعتمة في الدبلوماسية الأميركية، وبين من تعامل معها على أنها تحصيل حاصل وأنها لا تكشف إلا ما كان معروفاً في العلاقات الدولية من قبل وما كان متداولاً في أروقة صنع القرار.

لكن مع كل هذا الجدل الذي أثاره موقع ويكيليكس تبقى مجموعة من الأسئلة الملحة التي تبحث لها عن أجوبة، مثل من قدم المعلومات للموقع؟ وإذا كان الأمر يتعلق فعلاً بجندي أميركي فكيف يمكن لموظف صغير في وزارة الدفاع الاطلاع على هذا الكم الهائل من الوثائق والمعلومات؟ وهل كان هناك آخرون متورطين في عملية التسريب؟ نحن نعرف أن الاطلاع على المعلومات يتم وفقاً للحاجة التي يمليها موقع الموظف فكيف لجندي بسيط لا يخول له منصبه الاقتراب من مصادر المعلومات الحصول عليها؟ وأخيراً ماذا عن جوليان أسانج الرجل الذي يقف وراء ويكيليكس؟ وماذا عن الدوافع التي تحركه؟ هل يسعى إلى إلحاق الضرر بالمصالح الأميركية أم أن الأمر يتعلق بشخص متطرف في إيمانه بحرية الصحافة ويعتقد أن لا شيء يتعين إخفاؤه عن الجمهور؟ ثم كيف يمكن للولايات المتحدة إيقاف نشره لمعلومات أخرى، وهو الأسترالي الذي يعيش خارج الولايات المتحدة؟