حازم صاغيّة


لبنانيّاً، جاءت تسريبات laquo;ويكيليكسraquo;، معطوفة على توقّع laquo;القرار الظنّيّraquo; في اغتيال الرئيس الحريري، وقبل أن تخمد مسألة laquo;الجواسيسraquo;، لتنسج عالماً تآمريّاً بخيوط الخرافة.

فتسريبات أسانج، إذا كانت دلالتها الأهمّ في العالم تتعلّق بانحسار الأسرار في زمننا الراهن، فإنّها عندنا مشوبة بفضائحيّة ينشرها أولئك الواثقون من أنّ خصومهم laquo;عملاءraquo;! والذين كان من المستحسن ألا يعاودوا اكتشاف المكتشَف. أمّا laquo;القرار الظنّيّraquo; فصدوره بات أحجية يجعلها التقدير الصعب لموقف laquo;حزب اللهraquo; أحجية دمويّة. وبدورهم فإنّ laquo;الجواسيسraquo;، وكما في سائر التجارب معهم، مرعى يسرح فيه اللاعقل ويمرح.

وبالنتيجة، تظهر وتسود خلاصات شعبيّة من أنّ السياسة laquo;لا ربّ لهاraquo; ولا قبل لأيّ كان بها، ومن أنّ الحياة والموت نفسيهما معلّقان على laquo;مبادرة سوريّة ndash; سعوديّةraquo; يكثر من يقولون إنّها غير قائمة أصلاً. أمّا تفشّي الجاسوسيّة فيقول، على ألسنة الناس، إنّ ما من أحد يمكن الاطمئنان إليه!

إنّ قوى عمياء أو غفلاً تتحكّم باللبنانيّين على نحو غير مسبوق. وهذا من سمات المراحل التي تسبق حدثاً مدوّياً وعاصفاً كاستيلاء مستبدّ على السلطة أو انفجار نزاع مسلّح مفتوح أو غير ذلك من عوارض الجيولوجيا الاجتماعيّة، إذا صحّ التعبير.

لكنّ مشاعر وقناعات كهذه هو ما لا تكفي لإنتاجه سنوات الصراع المعلن والعريض التي ابتدأت بمصرع الحريري في 2005. ذاك أنّ صناعة تلك المشاعر والقناعات ترجع إلى محطّات أسبق تناوبت على تحطيم العقل العامّ وعلى إفقاده كلّ مناعة يُعتدّ بها حيال الخرافة. يكفي التوقّف، من بين تلك المحطّات في هذه العمليّة المديدة، ببعضها الأبرز.

وأغلب الظنّ أنّ أولاها ترجع إلى أواسط السبعينات حين بدأ انهيار النموذج اللبنانيّ نفسه، هو الذي كان يبدو، في الظاهر، أكثر نماذج المنطقة نجاحاً. هكذا جاء العقاب على النجاح، ولو النسبيّ، أمراً مفارقاً للعقل، متمرّداً على أوامره. ثمّ كانت الحروب المتلاحقة في الثمانينات التي أظهرت حجم البيئة التي تريد للدولة ألا تنشأ. وفي سياق تلك الحروب رقصت اللاعقلانيّة رقصات تتالت، فسُحق مسيحيّو الجبل الذين تصفهم الأدبيّات السائدة بالبيئة الحاضنة للنهضة العربيّة، ثمّ سُحق سكّان المخيّمات الفلسطينيّة على أيدي من لا يقبلون بديلاً عن laquo;تحرير فلسطينraquo;. وفي هذه الغضون، نشأت للكلمات معانٍ مغايرة، فصار laquo;العرفاتيّraquo; يعني الخائن لفلسطين، كما صارت laquo;عروبة لبنانraquo; العنوان الذي يتمّ في ظلّه حرمان الفلسطينيّين قرارهم الوطنيّ المستقلّ، بينما غدت laquo;عروبة لبنانraquo; تساوي الوقوف ضدّاً لمصر والعراق والأردن والسعوديّة وباقي الخليج، فضلاً عن المغرب وتونس. وفي أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، صيغ سلام متعجّل لم يقنع الأكثر حذراً وتدقيقاً بأنّه سلام فعليّ. فكان من أعمدة ذاك السلام افتراض أنّ الاقتصاد كفيل بتذليل ما لا تذلّله السياسة، وهذا في بلد كشفت نزعة تدميره الذاتيّ التي انفجرت في 1975 أنّ المصالح فيه أضعف كثيراً من الغرائز. وبعد عام 2000 خصوصاً، بات من أعمدة ذاك السلام الالتفاف حول مقاومة ينبغي أن تستمرّ على رغم تحرير الأرض!

أمّا أحداث الفترة الأخيرة فلا تفعل غير تتويج ذاك المسار، ولو انطوى ذلك، في ما انطوى، على الكثير من عودات المكبوت.