لندن

أصبح موقع ldquo;ويكيليكسrdquo; هدفاً لحرب حقيقية تدور عبر الإنترنت بين المؤسسات الحاكمة، خصوصاً في الولايات المتحدة، ونشطاء يرفضون أي قيود على حرية التعبير وحرية الصحافة . وبينما يتعرض مؤسس ورئيس تحرير الموقع جوليان أسانج لهجوم شرس، ويصفه البعض بـ ldquo;المجرمrdquo; وrdquo;الإرهابيrdquo;، فإن العديد من الكتّاب والإعلاميين عبر العالم انبروا للدفاع عن أسانج والتنديد بالحملة الضارية التي تستهدف ldquo;ويكيليكسrdquo; .

من هؤلاء المدافعين، الأكاديمي والكاتب الصحفي الإيرلندي جون نوتون، الذي كتب مقالاً في صحيفة ldquo;الغارديانrdquo; البريطانية، لاحظ فيه أن الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه من واقعة ldquo;ويكيليكسrdquo; هو أن هذه الواقعة هي في الحقيقة أول مواجهة مديدة بين النظام القائم وثقافة الإنترنت .

وخيّر نوتون حكام العالم بين التعايش مع تكنولوجيا رقمية تكشف ما يقولون ويفعلون، أو إغلاق شبكة الإنترنت .

وقال: بينما تتوالى فصول هذا الاصطدام، أخذ تحجر النظام القائم القديم يظهر من بين الضباب الرقيق الوردي الذي كان يحجبه حتى الآن . والرد (على نشر وثائق ldquo;ويكيليكسrdquo;) كان وحشياً، ومنسقاً وشاملاً، وهو ينطوي على دروس بالنسبة لكل شخص حريص على الديمقراطية، وعلى مستقبل الإنترنت .

وهناك مفارقة تدعو للسخرية، في واقع أن ما يسمى الديمقراطيات الليبرالية هو الذي يطالب بصخب الآن بإغلاق موقع ldquo;ويكيليكسrdquo; .

ولنأخذ على سبيل المثال كيف تغيّرت آراء الإدارة الأمريكية خلال فترة سنة فقط . ففي 21 يناير/ كانون الثاني، ألقت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون خطاباً في واشنطن حول حرية الإنترنت، رحب به كثيرون اعتبروه معلماً، ومعظمهم فسّره على أنه توبيخ للصين بسبب هجومها الإلكتروني المزعوم على موقع ldquo;غوغلrdquo; . وقالت كلينتون: ldquo;نشر المعلومات لم يكن أبداً في الماضي بمثل هذه الحرية . وحتى في بلدان استبدادية، هناك شبكات لنشر المعلومات تساعد الناس على اكتشاف وقائع جديدة وجعل الحكومات أكثر عرضة للمحاسبةrdquo; .

وروت كلينتون في خطابها أن الرئيس باراك أوباما، خلال زيارته إلى الصين في نوفمبر/ تشرين الثاني ،2009 ldquo;دافع عن حق الناس في الوصول بحرية إلى المعلومات، وقال إنه كلما نشرت المعلومات بحرية أكبر، كلما أصبحت المجتمعات أكثر قوة . وقد شرح كيف أن الوصول إلى المعلومات يساعد المواطنين على جعل حكوماتهم عرضة للمحاسبة، ويولد أفكاراً جديدة، ويشجّع الإبداعrdquo; .

ونظراً لما نعرفه الآن، فإن خطاب كلينتون يبدو كتحفة هجائية .

خداع وفساد

هناك أمر يمكن أن يفسر الهستيريا الرسمية بشأن وثائق ldquo;ويكيليكسrdquo;، هو أن هذه الوثائق تفضح كيف كانت النخب السياسية في الديمقراطيات الغربية تخدع ناخبيها .

إن ما يكشفه ldquo;ويكيليكسrdquo; حقاً هو مدى الخداع الذي بلغه النظام الديمقراطي الغربي . فقد تبين خلال العقد الأخير أن النخب السياسية في هذا النظام كانت غير كفؤة (الولايات المتحدة وبريطانيا وإيرلندا في عدم ضبطها للمصارف)، وفاسدة (جميع الحكومات في ما يتعلق بتجارة الأسلحة)، ومتهورة في نزعتها العسكرية (الولايات المتحدة وبريطانيا في العراق) . ومع ذلك، لم يحدث في أي مكان أن كانت هذه النخب خاضعة للمحاسبة بصورة فعالة . وبدلاً من ذلك، كانت تكذب وتشوّش الأمور . وعندما رفع حجاب السرية بعد طول انتظار، كان رد فعلها التلقائي هو قتل كاشف الأسرار .

لقد اكتشفت النخب السياسية في الديمقراطيات الغربية أن الإنترنت يمكن أن تكون شوكة، ليس في خاصرة الأنظمة الاستبدادية فحسب، وإنما أيضاً في خاصرتها هي، وقد كان مشهداً هزلياً رؤيتها وقد جنَّ جنونها بشأن الإنترنت .

ولكن السياسيين يواجهون الآن مأزقاً موجعاً . ولديهم الآن خيار يبتّون في أمره: إما أن يتعلموا التعايش مع عالم تتسرب فيه أخبارهم المخفية، مع كل ما يستتبع ذلك بالنسبة لسلوكهم في المستقبل، وإما أن يغلقوا الإنترنت . . الأمر عائد إليهم .

فضح الخداع

في معهد أبحاث الهادئ، ومركزه في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، كتب مدير مركز الصحافة التابع للمعهد ستيفن غرينهات مقالاً بعنوان ldquo;ويكيليكس ليس تهديداً لمجتمع حرrdquo;، قال فيه: ردود المعلقين المنتقدين على نشر الوثائق في ldquo;ويكيليكسrdquo; ذكرتني بواعظ يشجب المجلات الإباحية، ولكنه يحرص على قراءة كل صفحة من هذه المجلات القذرة بحيث يستطيع أن يفهم على نحو أفضل مدى فسوق العالم . فإذا كان عمل ldquo;ويكيليكسrdquo; بمثل هذا السوء، فلماذا هذا الاهتمام الهائل بهذه الوثائق وهذا النقد الصاخب لنشرها؟

من الواضح أن ldquo;ويكيليكسrdquo; أدى خدمة لأمتنا بنشره تقارير محرجة أحياناً عن الطريقة التي تدير بها حكومة الولايات المتحدة سياستها الخارجية . فهذه حكومة تزعم أنها من الشعب وللشعب، وتتظاهر بأنها تعمل لنشر الحرية عبر العالم، ومع ذلك تريد أن تحتفظ بسلطة إبقاء معظم تفاصيل أعمالها بعيداً عن أعين الرأي العام . وأنا أشعر بالدهشة لأن معظم الأمريكيين، من ليبراليين ومحافظين، يرضون بسهولة أن تعمل حكومتهم بمثل هذه السرية، رغم أن الحكم الشفاف هو حجر الزاوية لمجتمع حر .

ldquo;غرب متوحشrdquo;

في موقع ldquo;صالونrdquo;، كتب المحامي والكاتب والمعلّق الأمريكي غلين غرينوالد مقالاً شبّه فيه هجوم الغرب على موقع ldquo;ويكيليكسrdquo; وجوليان أسانج بما كان يحدث في الغرب الأمريكي المتوحش في القرن التاسع عشر . وقال: ldquo;ويكيليكسrdquo; لم يتهم أبداً بأي جريمة، دع عنك أنه أدين بجريمة ما . وهناك إجماع بين الخبراء القانونيين على أن إجراء محاكمة ل ldquo;ويكيليكسrdquo; أو جوليان أسانج سيكون بمنتهى الصعوبة . ورغم هذه الوقائع، انظروا إلى العقاب الذي أنزل بهما حتى الآن . انظروا إلى أي مدى حكومة الولايات المتحدة وأصدقاؤها مستعدون لمعاقبة من يتحداهم - وكل ذلك من دون توجيه أي اتهامات قضائية أو أي مسوغ قانوني: لقد جمدوا موجودات ldquo;ويكيليكسrdquo;، وجمدوا التمويلات التي قدمت لتغطية تكلفة الدفاع القانوني عن أسانج، وحاولوا إزالة ldquo;ويكيليكسrdquo; من الإنترنت، وهددوا كل من يتعامل معه، وهددوا باغتيال أسانج، بل إن الحكومة الأسترالية هددت علانية بسحب جواز سفر مواطنها أسانج، والبعض أعلنوا أن ldquo;ويكيليكسrdquo; وأسانج ldquo;إرهابيانrdquo; - علماً بأن أياً منهما لم يتورط يوماً في عنف، أو دعا إلى عنف، أو تسبب بمقتل مدنيين .

وكل ذلك يعكس عقلية مسمومة عبّر عنها السيناتور ميتشل ماك كونل، زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ الأمريكي، قائلاً عن أسانج خلال مقابلة تلفزيونية ldquo;أعتقد أن الرجل إرهابي يستخدم التكنولوجيا المتطورة . لقد ألحق أذى هائلاً ببلدنا، وأعتقد أنه يجب محاكمته بكل سلطة القانون، وإذا كانت هناك مشكلة تمنع ذلك، فيجب تغيير القانونrdquo; . وعندما تستخدم السلطات الأمريكية تعبير ldquo;إرهابيrdquo;، فهذا يعني في الحقيقة ldquo;أولئك الذين يعترضون سبيل أو يتحدّون إرادة الحكومة الأمريكية بأي قدر من الفعاليةrdquo;، وأي شخص يفعل ذلك هو ldquo;إرهابيrdquo; بطبيعة الحال . ولاحظوا رأي ماك كونل، وهو رأي يعكس رأي السلطات، القائل إنه إذا كان شخص يريد هو (ماك كونل) محاكمته ليس مجرماً وفقاً للقانون، فعندئذ يجب ldquo;تغيير القانونrdquo; لجعله مجرماً .

ولكن حتى هذا النوع من المكيدة القانونية المدبرة ليس ضرورياً . فالولايات المتحدة وأصدقاؤها في عوالم الغرب والأعمال هم أكثر من قادرين وسعداء لمعاقبة أي شخص يريدون من دون أدنى أساس في ldquo;القانونrdquo; . هذا هو العالم الغربي المتوحش: عالم بلا قانون، يعاقب فيه الزعماء السياسيون أي شخص يريدون من دون أي قيود، وبالتأكيد من دون أي اهتمام باحترام ldquo;القانونrdquo;، وأي شخص يشك في ذلك، عليه أن ينظر في ما حدث ل ldquo;ويكيليكسrdquo; وأسانج .

بطلان ادعاء الفضيلة

في موقع ldquo;ساينز أوف ذا تايمزrdquo;، كتب الاقتصادي والمعلّق الأمريكي بول كريغ روبيرتس (الذي عمل مساعداً لوزير الخزانة في إدارة رونالد ريغان) مقالاً بعنوان ldquo;الحضارة الغربية تطرح قيمهاrdquo;، دان فيه الحملة على ldquo;ويكيليكسrdquo; وأسانج، واستهله باستشهاد بمقطع من خطاب للدكتور جوزيف غوبلز، وزير الدعاية في حكومة هتلر النازية، يقول: ldquo;الكذب يجوز الاحتفاظ بسره فقط لوقت تستطيع خلاله الدولة حماية الشعب من العواقب السياسية والاقتصادية والعسكرية للكذب . وتبعاً لذلك، يصبح من المهم إلى أقصى حد أن تستخدم الدولة كل سلطاتها من أجل قمع المعارضة، لأن الحقيقة هي العدو المميت للكذب، وبناء عليه، فإن الحقيقة تصبح أكبر عدو للدولةrdquo; .

بعد هذا الاستشهاد، يتابع روبيرتس قائلاً: الحضارة الغربية لم تعد تدعم القيم التي تنادي بها . إذن، ما هو الأساس لادعائها الفضيلة؟

على سبيل المثال، الحكومة الأمريكية ووسائل الإعلام الأمريكية المطبوعة والمتلفزة أوضحت بجلاء تام أنها لا تكنّ أي احترام للتعديل الأول (في الدستور الأمريكي، الذي يضمن حرية التعبير وحرية الصحافة من دون أي قيود) . ولننظر في رد فعل وولف بليتزر العامل لدى ldquo;سي .إن .إنrdquo; على الوثائق الدبلوماسية المسرّبة التي تكشف كيف تستخدم الحكومة الأمريكية الخداع، والرشى، والتهديد من أجل السيطرة على حكومات أخرى وتضليل الرأي العام في أمريكا وبلدان أخرى . فقد عبّر بليتزر عن السخط لأن معلومات تكشف سوء سلوك الحكومة الأمريكية قد وصلت إلى الشعب، أو قسم منه . وكما كتب الصحافي إلكسندر كوكبيرن، فإن بليتزر طالب الحكومة الأمريكية باتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان ألا يكتشف الشعب الأمريكي والصحافيون أبداً ما الذي تخطط له حكومتهم في السر .

إن الاستخفاف بالتعديل الأول راسخ في وسائل الإعلام الأمريكية، التي تعمل بمثابة وزارة دعاية للحكومة . ألا تذكرون وثيقة وكالة الأمن القومي التي سرّبها أحدهم إلى صحيفة ldquo;نيويورك تايمزrdquo; والتي أفادت بأن نظام جورج بوش كان ينتهك قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية ويتجسس على الأمريكيين من دون الحصول على أذون من محكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية؟ لقد تكتمت ldquo;نيويورك تايمزrdquo; على الوثيقة لمدة سنة، ولم تنشرها إلا بعد إعادة انتخاب بوش . وفي هذا الوقت، كان نظام بوش قد ابتدع مبدأ قانونياً ldquo;أجازrdquo; لبوش انتهاك القانون الأمريكي .

وكتابات غلين غرينوالد في موقع ldquo;صالونrdquo; فضحت غياب المعايير الأخلاقية بين منتقدي ldquo;ويكيليكسrdquo; . وقد دعا عدد من السياسيين الأمريكيين الحكومة الأمريكية إلى قتل جوليان أسانج، وكذلك فعل صحافيون، مثل داعية المحافظين الجدد جوناه غولدبيرغ، الذي كتب متسائلاً: ldquo;لماذا لم يخنق أسانج في غرفة فندق منذ سنوات؟rdquo; .

لقد أوضح منتقدو ldquo;ويكيليكسrdquo; بجلاء تام أنهم لا يؤمنون بحكومة عرضة للمحاسبة . وحتى يضمنوا أن الحكومة لا تخضع للمحاسبة، يدعو منتقدو ldquo;ويكيليكسrdquo; إلى تطبيق كل إجراء معروف في دولة بوليسية، بما في ذلك القتل خارج نطاق القضاء، والقضاء على كل من ينشر معلومات تمكّن المواطنين من إخضاع الحكومة للمحاسبة .

ومن المؤكد أيضاً أن الحكومة الأمريكية لا تؤمن بحكومة عرضة للمحاسبة . فمن بين أوائل الأمور التي فعلها نظام أوباما، كان ضمان عدم إجراء أي تحقيق في لجوء نظام بوش إلى الكذب، وrdquo;المعلومات الاستخباراتيةrdquo; الملفّقة، وخداع الرأي العام الأمريكي والأمم المتحدة، بهدف حشد الدعم لأجندته بشأن غزو دول إسلامية في الشرق الأوسط . ونظام أوباما عمل أيضاً لضمان عدم إخضاع أي مسؤول في نظام بوش للمحاسبة بسبب انتهاك القوانين الأمريكية والدولية، وتعذيب معتقلين، وارتكاب جرائم حرب، وانتهاك خصوصيات الناس، أو أي أعمال إجرامية أخرى ارتكبها نظام بوش .

وكما تكشف البرقيات الدبلوماسية التي سرّبها أمريكي وطني إلى ldquo;ويكيليكسrdquo;، فإن الحكومة الأمريكية استطاعت حتى منع وجود حكومة عرضة للمحاسبة في بريطانيا، من خلال حملها رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون على ldquo;تجميدrdquo; تحقيق لجنة شيلكوت الرسمية، المكلفة بالتحقيق في الخدع التي لجأ إليها رئيس الوزراء السابق توني بلير ليقود بريطانيا إلى العمل كمرتزقة في حروب أمريكا . وتمكنت الحكومة الأمريكية من أن تفعل ذلك، لأن رئيس الوزراء البريطاني لا يؤمن هو أيضاً بحكومة عرضة للمحاسبة .

إن الوثائق المسرّبة تظهر أن آخر شيء تريده الحكومة الأمريكية في أي مكان هو حكومة تكون خاضعة لمحاسبة مواطنيها وليس للحكومة الأمريكية .

وهجوم الحكومة الأمريكية المباشر على حرية المعلومات يذهب إلى أبعد من ldquo;ويكيليكسrdquo; وإغلاق خوادمها في الإنترنت . ففي 2 ديسمبر/ كانون الأول، نشرت صحيفة ldquo;واشنطن تايمزrdquo; افتتاحية بعنوان ldquo;قولوا وداعاً لحرية الإنترنتrdquo;، أفادت فيها بأن رئيس لجنة الاتصالات الاتحادية الأمريكية جوليوس جيناتشوفسكي ldquo;عرض خطة لتوسيع سلطة الحكومة الاتحادية على الإنترنتrdquo; .

والسؤال البديهي، ولو أنه لم يطرح حتى الآن، هو: لماذا تخشى الحكومة الأمريكية الشعب الأمريكي وتعتقد أن الأنباء التي تنسجها وترتبها الحكومة هي وحدها الصالحة للنشر؟ هل هناك أجندة يجري تنفيذها من أجل تحويل المواطنين إلى رعية خاضعة؟