عاطف الغمري

لست ممن يتقبلون آراء تقول، إن المصريين لم يكونوا في تاريخهم مهتمين بالأحزاب، وإن أنظارهم كانت معلقة أبداً بالسلطة التنفيذية بحكم تقاليد قديمة أساسها أن مصر دولة مركزية . أو القول إن المصريين قبل ثورة ،52 لم يكونوا مهتمين بالعملية السياسية، بدعوى أنها كانت عبارة عن لعبة بين ثلاثة أطراف القصر والإنجليز والأحزاب، وكأن تاريخ المصريين قد خلا من دور لهم، ونضال من أجل قضية وطنية .

كانت تستهويني وأنا في طور الطفولة، جلسات حوارية ساخنة لأقارب ومعارف من طلاب المدارس الثانوية، تعقد مساء في بيت أحدهم، ومنهم الوفدي، والإخواني، والمنتمي لمصر الفتاة، أو الحزب الوطني القديم، وغيرها من أحزاب هذا العصر .

وفي نهاية الجلسة يتصافح الأصدقاء وينصرفون على لقاءات لاحقة . وكان الانتماء إلى الأحزاب معروفاً وعلى نطاق واسع، ورغم اختلاف التوجهات، فإنهم جميعاً، كانوا مجتمعين حول قضية مشتركة، وهي المسألة الوطنية، والتخلص من الاحتلال، واحترام الدستور .

وحين أبدأ بتأمل الآراء التي لم أتفق معها، ننظر بداية إلى موقف الناخبين في آخر انتخابات نيابية قبل ثورة ،52 حين تدفقوا على صناديق الانتخابات بنسبة تصويت لم تبلغها أي انتخابات في مصر حتى اليوم، قدرها المؤرخون بما يزيد على 60% . بعض الإحصاءات قالت إنها 66 .69%، وأخرى قدرتها ب 75%، ولكن أقلها وهو ما سجله المؤرخ عبدالرحمن الرافعي استناداً إلى أرقام وزارة الداخلية، وكانت 62 .60% وفاز فيها الوفد بأغلبية 5 .71% .

بعد ذلك بفترة قصيرة، قامت ثورة يوليو، وكانت هناك حركة جماهيرية تنشطها حياة حزبية منظمة، وصحافة مطلقة السراح، مقترنة بنهضة فكرية وثقافية انتعشت بقوة في الأربعينيات، وهي التي شهدت المناخ لاستقبال ثورة ،52 باقتناع أن الضباط الأحرار خرجوا كطليعة، لمطالب جماهيرية ترفض تدخل القصر في الحياة السياسية، وترفض أي تهاون من الحكومة في المسألة الوطنية .

ولو رجعنا قليلاً إلى ما قبل الأربعينيات بقليل، نجد تحركات شعبية جماهيرية تنتشر في مختلف المدن والقرى عام ،1935 تطالب بإلغاء دستور 1930 الذي استبدلته حكومة إسماعيل صدقي بدستور ،1923 ونتج عن هذا الحراك الشعبي العام إرغام الحكومة على الكف عن العبث بالدستور، وعودة دستور 1923 .

وسبقت أزمة دستور ،1923 حياة سياسية كانت قد تأسست من حزب الوفد، وعدد آخر من أحزاب الأقلية التي ظهرت نتيجة ثورة ،19 وهي الثورة الشعبية التي اشتعلت في مدن وقرى مصر بأكملها في وقت واحد، فكيف يقال إن الشعب كان خارج لعبة السياسة؟ بينما السياسة، في تعريف علم السياسة، هي شأن عام، وفاعلية مجتمعية نشطة، وهو ما كان .

إن الحركة الوطنية في مصر، هي من صنع تراكمات أحداث تشكل سلسلة متصلة الحلقات لا تنقطع صلة إحداها بالأخرى، فالدور الذي قام به مصطفى كامل منذ إعلانه تأسيس الحزب الوطني عام ،1907 كبداية للحياة الحزبية، كانت قضيته الأولى، أن يوقظ في المصريين الروح الوطنية التي سعى الإنجليز بكل مسعى ممكن إلى انكسارها، منذ هزيمة عرابي عام ،1882 انتقاماً من المشاركة الشعبية في دعم ثورة عرابي . وأسهم مصطفى كامل في إحداث نضج اجتماعي وفهم عميق للهوية الوطنية، عمل على خلق المناخ الذي احتشد فيه المصريون وقاموا بثورة 19 .

وللأحزاب في مصر تاريخ قديم نشأ عملياً مع قيام الحزب الوطني لمصطفى كامل عام ،1907 وقيام حزبين آخرين في نفس العام هما حزب الأمة من كبار الرأسماليين، وكبار المسؤولين، وبعض الشباب المثقفين، وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، معبراً عن القصر الخديوي .

وتوالت الأحزاب مع تأسيس الوفد بعد ثورة ،19 ثم الأحرار الدستوريين (1922)، وتنظيم الإخوان (1928)، ومصر الفتاة (1933)، والهيئة السعدية (1937)، وتنظيمات يسارية في الأربعينيات، ثم الحزب الوطني الجديد من شباب الحزب القديم، والكتلة الوفدية (1942) .

وهذه الحياة الحزبية، كما يقول الكاتب البريطاني بيتر مانسفيلد في كتابه ldquo;البريطانيون في مصرrdquo;، أفرزت موجة جديدة من قيادات وأعضاء الحركة الوطنية التي نشطت بقوة في مصر .

أما عن تناقضات العلاقة الثلاثية بين الملك والإنجليز والأحزاب، فهي علاقة معقدة من بدايتها، فالملك فؤاد لم يكن يقبل تقييد البرلمان لسلطته المطلقة، ووافق على حل البرلمان ثلاث مرات، وتأجيل الانتخابات مراراً، وهو الذي ألغى دستور 1923 ليحل محله دستور 1930 المرفوض شعبياً .

وفاروق بدوره سعى دائماً إلى توسيع نفوذه السياسي، وإضعاف الأغلبية، مستعيناً بأحزاب الأقلية . وحزب الوفد الأغلبية حاول من ناحيته تقليص نفوذ القصر، والحد من الحقوق السياسية للملك، فضلاً عن العمل على الحد من نفوذ الإنجليز في الحياة السياسية .

والإنجليز من جانبهم لم يكفوا عن الضغط على القصر مرة، وعلى الأحزاب مرة أخرى، لاستمالة من يمكنهم استمالته، وإضعاف من يستعصي عليهم . أي أن الأمر لم يكن في إطار أوضاع مصر في هذه الفترة، مجرد لعبة سياسية لكنها كانت كذلك، صراعاً سياسياً، ولم يكن الشعب متفرجاً، أو خارج الحلبة، وإلا لما كانت هذه التحركات الشعبية التي حققت أحداثاً كبرى، ولما كانت هذه الانتماءات الواسعة النطاق للأحزاب القائمة، أو كانت تلك الموجات التي خلقت مزاجاً نفسياً وسياسياً رحب بثورة يوليو لحظة قيامها، بصرف النظر عن اختلافات بشأنها في ما بعد .

ولم يكن الشعب سلبياً غير مشارك، وكأن هذا حكم عليه، بأن هذا قدره، أو أنه تراث تاريخي مستحكم لا إفلات منه، مع أن التاريخ المعاصر يشهد بخلاف ذلك .

. . أما عن الضعف العام الذي دب في أوصال الأحزاب هذه الأيام، فهذا موضوع آخر .