خالص جلبي

الإنسان يتغير، والتغيير يتم بالنفس، والسلوك يتبع تغيير النفوس، وتغيير ما بالنفس هو من عالم الفكر، وعالم الفكر يتغير بالكلمة، لذا بدأ القرآن حملة التغيير بكلمة اقرأ، وثنّى بالقلم وما يسطرون، وثلّث بالرفع بالعلم، وربّع بدمج المعرفة بالإيمان، فبئس المعرفة بدون إيمان يشرح الصدر، ولا بورك لنا في طلوع شمس ذلك اليوم، الذي لا نزداد فيه علما يقربنا إلى الله تعالى.
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
التغير حقيقة كونية، كما أن الثبات حقيقة كونية، خلاف ما تزعمه مدرسة المنطق الحيوي، ولكن أكرر ما قاله أرسطو لأفلاطون إن الحقيقة أحب علي من صداقتك.
فإذا كانت الشمس تدور من مكان لمكان، فهي تعيد دورتها من غير المكان الذي كانت فيه، ولكن الدورة تبقى كما هي، أو لنقل بكلمة أدق القانون، حتى لو اختلفت الدورة قليلا، وهو ينفذنا إلى مبدأ ديكارت عن الشك في كل شيء، ولكن يبقى شيء أكيد ثابت، أنني أشك ..إذن أنا موجود ..لأنني أشك... لأنني أفكر.
وهكذا فالقانون باق، وهو ما سماه الرب أن سنة الله لن يعتريها التحويل أو التبديل، التبديل هو استبدالها بغيرها، فيأتي محلها من هو غيرها، فلا يحصل هذا.
ولولا ثبات القوانين ما أمكن لنا أن نتصرف بشيء فهذا هو العلم، أي التفاعل الفعال مع القوانين الشغالة بانتظام،
وبالمقابل ما أفقر الإيمان بدون معرفة، وهي ما سماه الفيلسوف كانط الوعي والتاريخ، ولا يمكن لمؤمن أن يدخل محفلا دوليا، بدون الانتباه إلى إضافات المعرفة الإنسانية، وإلا كان مصيره السخرية من المحفل العالمي، وهي فكرة استفدناها من مالك بن نبي.
وهذه هي إحدى مشاكل الشلل العقلي في العالم الإسلامي: الانقطاع عن المعرفة وإعادة الالتحام بعربة التغير العالمي، وهو عمل عقلي أكثر منه اقتناء منتجات الحضارة، فالتكنولوجيا هي نتاج من نتاج، طبقا عن طبق، في علاقة جدلية بين ثلاثة عوالم، الفكر العلم ـ الأشياء، والفكر بدوره يدور في مثلث من اللغة والواقع والنص.
لا يمكن لأي نتاج حضاري أن يأتي بدون طبقة علمية ترفده بالتقنيات، ولكن هذا الجو العلمي من التقنيات لا يمكن أو يولد ويوجد بدون مناخ من نشاط فكري خصب..
أول ما يحدث هو تغيير الوسط، وهي قصة عجيبة من تغير البشر من كتل لحمية، إلى كائنات اجتماعية، تتفاعل في شبكة من علاقات، وهذا التغير عجيب فكتلة البشر قد تصاب بالكلل أو تتحلى بالفعالية، والسؤال المحير كيف يمكن أن يبدع الكل بدون خوف، وكيف يفكر الجميع بدون خوف، وكيف يناقشون ويناقضون علناً بدون أن يصابوا بالرعب والهلع،
هذا الوسط يحدث في حالات نادرة من تاريخ المجتمعات كما في ربيع الفكر اليوناني بدءا من تاليس حتى الأفلاطونية الحديثة، والعصر الذهبي العباسي حين بزغت شمس المعتزلة وإخوان الصفا في جو الفلسفة، وجو التنوير في أوروبا الذي بدأ بالثنائي بيكون روجر وفرانسيس وخاصة الثاني.
وفرانسيس بيكون يعتبر من وضع أسس التفكير العلمي والتخلص من جو الخرافة والوثنية، فدشن فكرة الأوهام الأربعة المسرح والقبيلة والسوق والعقل، وهو ينحو تقريبا ما ذكرته الآية عن مرض الآباء حين يكرر الجميع نفس المقولة: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، أي إمكانية مراجعة الأفكار ونقدها أيا كان مصدرها،
وهذه الفكرة خطيرة رجراجة مقلقة تماما، لأن تصوراتنا عن هذه الآية التي تتكرر في القرآن قد نتصورها عن مشركي قريش ولا علاقة لنا بها، والآية تقول إنها مرض اجتماعي يصيب أهل أي كتاب ونحن لا نشكل شذوذا على القاعدة.
هذه الفكرة وأمثالها من الأفكار التفجيرية يعيد تلاوتها القرآن دوما، مثل أن كثيرا من الشعارات والكلمات لا سلطان لها على الناس، أو أن أي قوة بما فيها الشيطان ليس لها سلطان على العباد، أو فكرة أن أظلم الظلم الافتراء على الله أن هذا الكلام وغيره من الله وهو قول البشر، أو الفكرة التي أوردناها أن هذه الترهات هي أقوال آبائنا ونحن غير مسؤولين عنها،
وهكذا فإمكانية التحرر العقلي من سلطان الآباء والعادة والمسلمات وإعادة النظر في الأفكار دوما لدحضها أو تطويرها والزيادة فيها والحذف هي روح التطور في الحياة.