رضوان السيد

هدت بيروت حَدَثَها الثقافيَّ السنويَّ الأبرز من خلال معرض الكتاب العربي والدولي. وإضافةُ quot;الدوليquot; كبيرةٌ عليه، ليس بمقاييس معرض فرانكفورت مَثَلاً؛ بل ومعرض القاهرة أيضاً؛ وذلك من حيث الدُور الممثَّلة، وعدد الكتب الأجنبية المعروضة. لكنّ معرض بيروت رغم هذا النقص، يظلُّ ممثِّلاً معتبراً للإنتاج الثقافي العربي خلال عام. والمُهمُّ في الأمر ليس عدد وكمية الكتب المنشورة؛ بل والمؤلّفون أيضاً، وهم بنسبة 50 في المئة أو أكثر من غير اللبنانيين. وهناك ميزةٌ ثالثةٌ، وهي أنّ 20 في المئة أو أكثر من دُور النشر تُمارسُ أعمالَ الترجمة عن سائر اللغات الأجنبية الحيّة وبخاصةٍ الفرنسية والإنجليزية. والقراء ببيروت ليسوا كثيرين، ولا أقصِدُ هنا كتب الأطفال وكتب الطبخ؛ بل أقصد قُرّاء الكتب الأدبية والدراسات الجادّة في السياسة والاقتصاد والتاريخ. ولا نستطيع تعزية أنفُسِنا بوسائل النشر الحديثة ووسائل الاتّصال المتطورة التي صارت تشغل حيّزاً من المعرض، فهذه النشريات أو المنثورات- إذا صحَّ أنها كذلك- لا تحتاج للوصول إليها زيارة المعرض؛ بل يصلُ إلهيا الأكثرون في منازلهم أو جامعاتهم، وهم يمتلكون الوسائل لذلك. ومع ذلك فإنّ الروايات والشعريات وكتب السيرة والأدبيات الشخصية، كانت بارزةً في المعرض، عدداً واقتناءً. وتظلُّ كتب الإسلاميات بارزةً أيضاً، ليس كما كان عليه الأمر قبل عشر سنواتٍ مثلاً، لكنها تظلُّ تُشكّلُ ثُلُث المعروض. وينبغي هنا التفريق بين النصوص القديمة، والدراسات والعروض الحديثة. فالنصوص العربية والإسلامية القديمة تظلُّ مطلوبةُ لطلاّب الجامعات والمختصين، وبخاصةٍ الفقراء من الطلاب الذين لا يستطيعون الوصول إليها بالوسائل المعاصرة. والحقُّ أنّ الغَلَبة بين الكتب الإسلامية، كانت لتلك النصوص، وما كان عليها إقبالٌ كبير. إنما كان هناك نقصٌ ظاهرٌ في الدراسات والعروض الحديثة في مجال الإسلاميات، حتّى ما كان منها خاصاً بالحركات الإسلامية مثلاً. ولذا يمكن القول -دونما جزم- إنّ ظاهرة وشعارات quot;الحلّ الإسلاميquot; ما عادت تعني تصورات في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاقيات؛ بل هي سلوكٌ ظاهرٌ في الملابس وتفاصيل الحياة. ولا أعني بذلك أنّ هذا الأمر أقلّ دلالةً أو أهمية؛ وإنما أعني أن quot;المشروع الإسلاميquot; الثقافي، صار ظاهرةً موطنُها المنازل والشارع والمواقع أو الإنترنت، وليس النقاشات المتطوِّرة في الشأن العامّ، والتي تعرض بدائل تغييرية للواقع الراهن. أما ازدهار الرواية فقد بلغ شأواً بعيداً، وظهرت أسماءُ جديدةٌ إلى جانب الأسماء المشهورة. والذي تردّدت أصداؤه في أرجاء المعرض، لا يتناول الروايات فقط، بل يتناولُ كتب سيّر الشخصيات القديمة والحديثة، والمقابلات مع شخصياتٍ لعبت أدواراً في العقود الماضية. وفي هذا المجال أُشيد بالكتب الفكرية والثقافية والمترجمة في عدة دُورٍ ومراكز، مثل المكتبة الشرقية ودار الكتاب الجديد المتحدة والمنظمة العربية للترجمة ودار الكتاب العربي (تتميز بنشر الكتب السياسية الجادّة). إنما لأنّ أكثر المترجمين لبنانيون أو من بلاد عربية فرانكوفونية؛ فإنّ أكثر هذه الكتب مترجمة وبإتْقانٍ عن الفرنسية. وقد أعجبني كتابا عمرو حمزاوي، الباحث بمؤسَّسة كارنيجين، والمقيم ببيروت، وأحدهما يتضمن مجموعة مقالاته الصحفية عن أحوال العرب، والآخر مترجم عن الإنجليزية وهو يُعنى بمتابعة تجربة الإسلاميين في البرلمانات خلال العقود الثلاثة الماضية. وبيتُ القصيد الذي أُريدُ الوصولَ إليه وهو النقصُ الفاضحُ في الكتب التي تُعنى بالفكر السياسي والفلسفة السياسية، وبنقد التجربة السياسية العربية واستراتيجيات العالم المعاصر خارج المقولات الإدانية للعولمة ومُخرجاتها. وصحيحٌ أنّ المفكّرين العرب خرجوا من ردود الأفعال حول مقولة صراع الحضارات، واهتموا تأليفاً وترجمةً بالتجارب الآسيوية، لكنّ التجربة السياسية العربية وبدائلها الممكنة خارج الإدانات المعروفة، ما تزال بحوثُها قليلةً وذات مستوىً مُتَدَنٍّ.

أمّا الظاهرةُ الأخرى التي تستحقُّ التأمُّل، فهي الإقبال على شراء مؤلَّفات المفكّرين العرب الذين تُوفُّوا خلال هذا العام، مثل الجابري وأركون وأبو زيد والقُصيبي. والقصيبي روائيٌّ وشاعرٌ مارس العمل العامَّ وكتب عنه. أمّا الآخَرون فعُنُوا بالتجربة الثقافية والحضارية العربية والإسلامية القديمة والحديثة، فضلاً عن اهتمامهم بالإصلاح والنهوض في الحاضر العربي. وهكذا فهناك جانبٌ أكاديميٌّ بارزٌ في أعمالهم، وإن يكن الهمُّ النضاليُّ والنهضويُّ غالباً عليهم. لكنهم بمعنىً من المعاني (باستثناء جانب من أعمال أبوزيد) حملوا إشكاليات المرحلة الماضية، مرحلة الحرب الباردة، وكانت لها انحيازاتُها الثقافية والفكرية والسياسية. لقد انحازوا لأُطروحة التقدم والنهوض، وهذا ليس عيباً بل ميزة. لكنهم توسَّلوا لذلك بالانغماس في نقض أو تأويل الموروث الفكري والثقافي العربي باعتباره العائق الأبرز والحائل دون دخول العرب في عالم العصر وعصر العالم. وخلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، مع تفاقم التأزُّم في التجربة السياسية العربية، ازدادت كتاباتُهُم حِدَّةً، بحيث يُخيَّلُ لمن يقرأ كلام أحدهم عن الشافعي أو ابن حنبل أو الغزالي أو المتوكّل العباسي أو ابن سينا، أنه إنما يقرأ إدانةً لأحد الحكام العرب المعاصرين. وهكذا فالذي أراه أنه من المفيد أن يُقْبلَ شُبّانُ الباحثين على قراءة أعمال هؤلاء المفكرين الجادّة، إنما المنتمية إلى مرحلةٍ ماضية ليتأسَّسُ وعيٌ نقديٌّ بشأن البدائل في كتابة التاريخ الثقافي العربي، والكتابة في مشكلات الحاضر العربي ما بعد الحرب الباردة. إذ إنّ الانتقامَ من الماضي، أو من التاريخ، ونسبة مشكلاتنا إليه، لن يُسْهم في حلّ أيٍّ من التأزُّمات الاقتصادية أو السياسية التي نُعانيها؛ فضلاً عن إمكان الإسهام في فهم الظاهرة الإسلامية المُعاصرة!

وأُلفت الانتباه أخيراً إلى التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية، والذي أعلنت عنه quot;مؤسسة الفكر العربيquot; خلال المعرض، وقد تضمن إحصائياتٍ واستطلاعاتٍ وبحوثاً حول البحث العلمي في الوطن العربي، والمعلوماتية لدى العرب، وحركة التأليف والنشر، والمشهد الإبداعي، والحصاد السنوي (القضايا والتساؤلات التي انشغل بها العرب في عام 2009).

إنّ تقرير التنمية الثقافية يتواضع بالإحصائيات والاستطلاعات الكثيرة التي يوردُها في كلٍّ من المجالات الخمسة التي يبحثُها. لكنه في الواقع أكثر من ذلك بكثير. إذ هناك بحثٌ مُسْتقْصٍ في كلّ ناحيةٍ بعد الإحصاء أو الاستطلاع. وهناك محاولةٌ لتجنب الأحكام القاطعة والتقييمات الشاملة. ومع ذلك، تعالوا نقرأ عينةً من عيِّنات quot;التواصلُquot; الثقافي العربي على شبكة الإنترنت: فأعلى معدَّل بحث على الشبكة (شهرياً خلال عام 2009) كان عن مسائل في كتاب quot;شمس المعارف الكبرىquot; (في الحكايات العجائبية والشعوذة والسحر وضرب الرمل)، ويليه quot;صحيح البخاريquot;، ثم قاموس quot;لسان العربquot;، ثم quot;رياض الصالحينquot; للنووي، ثم quot;صحيح مسلمquot;، ثم كتاب quot;نهج البلاغةquot;، وأخيراً كتاب quot;فقه السنّةquot; لسيد سابق (74 ألف دخول وبحث لكتاب شمس المعارف، وحتى 14 ألف لكتاب سيّد سابق).