مشاري الذايدي


laquo;بات هناك من يقول للسلفيين: أصبحت تتحدث كما القرضاويraquo;.
هذه العبارة كانت أبرز ما في الحديث المهم الذي أدلى به laquo;فقيه الصحوةraquo; الشيخ يوسف القرضاوي، في حواره الممتع بهذه الجريدة الأربعاء الماضي مع الزميلة هدى الصالح.
كان السؤال حول خلافات الشيخ مع السلفيين، حيث كان للقرضاوي - كما يعلم المتابع - صولات وجولات مع شيوخ السلفية، فهم تضايقوا من تساهله الفقهي، كما تجلى ذلك في الردود على كتابه الشهير laquo;الحلال والحرام في الإسلامraquo;. كانت معركة سلفية إخوانية، بين إسلام جديد وإسلام قديم، إسلام سياسي وإسلام عقائدي، إسلام حركي وإسلام تقليدي، إسلام محافظ وإسلام ثوري.. أيا تكن الثنائية التي تريد أن تضع فيها أو تصف الصراع بين السلفيين والإخوان المسلمين، فهي قضية نسبية في النهاية.
الشيخ القرضاوي كما نعلم هو أبرز رمز فقهي بل وشخصية عامة للإخوان المسلمين في العالم الإسلامي، حتى إنه تجاوز بكثير مكانة فقيه الإخوان الأول الشيخ سيد سابق صاحب كتاب laquo;فقه السنةraquo;، وحين نتحدث عن إخوانية الشيخ القرضاوي فهذا ليس اتهاما أو تقولا بل هو انتماء يفخر به القرضاوي، وتحدث عنه بتوسع في سيرته الذاتية وفي حواراته، وفي حواره الأخير هذا مع جريدة laquo;الشرق الأوسطraquo; ذكر أنه قد عرض عليه أكثر من مرة منصب مرشد الإخوان المسلمين. لكنه فضل أن يبقى خارج أسر المنصب الحركي ويظل مرشدا للأمة كلها كما ذكر.
النزاع بين الإخوان المسلمين وبقية المساهمين في تكوين المجال الديني السني، في العصر الحديث، هو نزاع مثير وشهير ومرت به فصول كثيرة، بداية مع أرباب المدارس المذهبية التقليدية السالكين السبل الطرقية الصوفية والتمذهب الكلامي الأشعري، كما حصل في مصر أو في لبنان مع جماعة الأحباش وصراعهم مع الجماعة الإسلامية في لبنان (الفرع الإخواني اللبناني). وغيرها من البلدان.
كان للإخوان صراع واضح مع السلفيين، رغم بدايات الصداقة باعتبار أن مؤسس الجماعة حسن البنا كان تلميذا للشيخ رشيد رضا، السلفي المصري - الشامي الذي تخلى عن عقلانية محمد عبده واتجه أكثر ناحية laquo;المعياريةraquo; السلفية، بل وصار من أكبر أنصار الدعوة السلفية في مصر، أو laquo;الوهابيةraquo; كما كانت تدعى وقتها وكما كان يوصف بها الشيخ رشيد رضا الذي كان القيم على طباعة الأدبيات السلفية القادمة من عمق الجزيرة العربية.
لكن هذه التلمذة للشيخ البنا على يد الشيخ رضا، لم تشفع له كثيرا لدى الحس السلفي التقليدي الذي يقدم نقاء العقيدة وسلامتها المعيارية السلفية على كل شرط آخر، وقد تحدث الراحل السوري الشيخ المعروف علي الطنطاوي في مذكراته عن كيف أنه كان يعاني في الرياض ودمشق، فهو في بلده دمشق كان يوصف بأنه وهابي، وفي الرياض بأنه أشعري!
حسن البنا، بسبب من رغبته في الحشد الجماهيري السياسي، كان متساهلا في شرط النقاء السلفي إلى حد ما، رغم أنه يوافق مثل شيخه رشيد رضا وشيخ شيخه محمد عبده على أن ممارسات الطرق الصوفية حول القبور والأولياء منافية للإسلام النقي، لكنه لم يكن يجعل هذا الأمر من أولى اهتماماته، كما أنه لم يكن يضع فصلا حادا بين التصوف الشعبي وهذه الممارسات، على العكس فقد كان هو نفسه ينتمي في بداياته إلى طريقة صوفية.
مما هو معروف سعوديا أن البنا حين رغب في فتح فرع لجماعته بالبلاد قيل له: لا حاجة لذلك، كلنا إخوان وكلنا مسلمون! مما يشي بحذر مبكر من البعد السياسي الحركي لدى الجماعة.
هذا حديث التاريخ القريب البعيد، أما حديث اليوم فهو أنه بالفعل، وكما أشار الشيخ القرضاوي، قد تأثرت الحركات السلفية بالإخوان المسلمين، وقد أصبح كثير من التيارات السلفية في المنطقة يعتمد المنهج الإخواني في مقاربة السياسة ورفع شعار laquo;الإسلام هو الحلraquo; وتوظيف الدين في المعركة السياسية وجلب الجماهير والاستيلاء على الحكم، إما بالتدريج أو بشكل ثوري أو حتى انقلاب عسكري (كما حصل في السودان).
بعبارة أخرى لم يعد هناك فارق كبير يمكن للمراقب أن يلحظه على مستوى الخطاب السياسي والأداء، في الكويت مثلا، بين نائب سلفي كويتي مثل وليد الطبطبائي أو نائب إخواني مثل جمعان الحربش. تقاربت المسافات وتقلصت الفروق.
من هذه الزاوية، فالقرضاوي محق في الحديث عن laquo;أخونةraquo; السلفيين، ولكن حتى تكتمل الصورة يجب أن نقول إن هذا التأثير متبادل، فبقدر ما أثرت النزعة السياسية الحركية في المجاميع السلفية أثرت المعيارية السلفية والثقافة السلفية على جموع الإخوان وثقافتهم، كما بين الباحث المصري حسام تمام في بحثه عن laquo;صعود السلفية في جماعة الإخوانraquo; الذي صدر مؤخرا.
لعل من أبرز الأمثلة التي انصهر فيها المؤثران الإخواني والسلفي في وعاء واحد، ما اصطلح على تسميته في السعودية والخليج بالتيار laquo;السروريraquo;. وكنت قد كتبت طرفا من قصة هذا التيار في تحقيق صحافي بهذه الجريدة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004 وكان أفضل ما فيه وصفا لهذا التيار المهيمن على laquo;الصحوةraquo; الإسلامية في الخليج، بالذات في السعودية، قاله لي الباحث السعودي الإسلامي إبراهيم السكران، حين قال عن منهج السرورية بأنه: laquo;منهج يختلف عن المنهج الإخواني والسلفي التقليدي، يقوم على المزج بين شخصيتين إسلاميتين هامتين هما: ابن تيمية وسيد قطب!raquo; ويتابع: أخذوا من ابن تيمية موقفه السلفي الصارم من المخالفين للسنة من الفرق والمذاهب الأخرى مثل الشيعة، وبالتالي فهم استمدوا من ابن تيمية laquo;المضمون العقائديraquo;. وأما سيد قطب فأخذوا منه laquo;ثوريتهraquo; وآمنوا إيمانا تاما بمقولة الحاكمية لديه.
نعم، حصل مزيج من المضمون العقائدي السلفي المعياري، والثورية السياسية الأصولية لدى سيد قطب. لينتج لنا منتجا ثالثا هو laquo;السروريةraquo; ثم منتجا رابعا أخذ من الثلاثة كلهم وهو laquo;الجهادية السلفيةraquo; أو حسب التسميات الصحافية laquo;القاعدةraquo;.
الشيخ القرضاوي فرح بأنه بسبب صبره وحواره استطاع أن يؤثر في السلفيين وأن يفتح أفقهم على العمل السياسي والاجتماعي العام، وأنه استطاع (وهذه بالفعل تسجل للشيخ القرضاوي) أن يحدث أثرا على الفقه المتعلق بالمرأة والفنون والتسامح، بدرجة تخفف من غلواء التزمت الفقهي.
نعم تحدث سلفيون بلغة القرضاوي السياسية ورفعوا شعار الثورية الشهير laquo;الإسلام هو الحلraquo; وأتقنوا لعبة الكر والفر في السياسة، ولكن كان ذلك من قبيل نقل laquo;تجربة ضارةraquo; أو في أحسن الأحوال ضررها أكبر من نفعها للمجتمعات الإسلامية، تجربة لم تفلح في منبعها (مصر) ولا في جوارها (السودان) لتفلح في مصابها بدول الخليج، تجربة استنزفت الجهود والدماء، من السلطات والجماعات، في معركة بلا طائل.
أمر آخر هو أن السلفيين الخليجيين، أو جلهم، لم يتحدثوا لغة القرضاوي في الفقه الاجتماعي الميسر، لكنهم أخذوا الثورية السياسية والتنظير لها وفكرة الحاكمية وجاهلية القرن العشرين التي حشا بها سيد قطب وتلاميذه عقول رواد الصحوة الإسلامية لدينا، لكن لم يأخذوا، مع هذه الثورية، مبدأ المرونة الفقهية الاجتماعية وفتح نوافذ تهوية لفقه المرأة والموقف من الفنون، كما يشهد بذلك تراث حركة الصحوة السعودية الحالي، وما زال. حدثت تحولات خاصة في المزاوجة بين تسيس القرضاوي ومرونته الفقهية وربما كانت النسخة السعودية الأوضح في هذا المجال هي نسخة الشيخ سلمان العودة الذي داعبه الشيخ المسن في الحوار المشار إليه هذا قائلا إنه: laquo;من أقرب أحبائي، ويعتبرونه على منهج القرضاويraquo;.
الحركة بركة والتحول سنة الحياة كما يقال، لكن بشرط أن لا نقف عند عتبة واحدة.. ونواصل المشي والاكتشاف وارتياد الآفاق كلها.