فواز الشروقي

لم تكن فتوى العلامة الدكتور يوسف القرضاوي بإباحة غناء المرأة هي الأولى ضمن الفتاوى الصادمة لما ترسّخ في الخطاب الديني السائد، ولن تكون الأخيرة. فالشيخ القرضاوي حفظه الله صدرت عنه الكثير من الفتاوى المثيرة للجدل والمخالفة للمتعارف عليه في الفقه الإسلامي، منها فتواه بإباحة صبغ شعر الرجل بالسواد، وإباحة قيام الجرسون المسلم بتقديم الخمر في المطاعم والفنادق، وإباحة اشتراك الجنود الأمريكان المسلمين في الحرب ضدّ المسلمين في العراق وأفغانستان.
ففي إذاعة البي بي سي العربية، أعلن القرضاوي أنّ غناء المرأة ليس حراماً طالما كان الكلام الذي تقوله مباحاً وطيباً، واستشهد بأغنية laquo;ستّ الحبايبraquo; لفايزة أحمد قائلاً: laquo;حينما أسمع هذه الأغنية لا تثير فيّ إلا مشاعر الحبّ لأمي، فما الضرر من سماع هذه الأغنية مثلاً والأغاني التي ليس بها خلاعة ولا إسفاف؟raquo;. متجاوزاً بذلك الآية الكريمة: laquo;ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل اللهraquo; والتي أقسم ابن مسعود على أنّ المقصود بها هو الغناء، ومتجاوزاً الكثير من الآراء الفقهية التي تزعم بأنّ صوت المرأة عورة.
وفي برنامجه الديني على قناة قطر الفضائية أفتى القرضاوي بجواز صبغ شعر الرجل الشابّ بالسواد، مخالفاً بذلك رأي أغلب الفقهاء المتقدّمين والمتأخرين الذين يستندون على الحديث الوارد عن الرسول عليه الصلاة والسلام: laquo;يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنّةraquo;. ويرى القرضاوي أنّ الغاية من تحريم صبغ شعر الرجل بالسواد هو النهي عن التدليس والغشّ، أما إذا كان الرجل شابّاً وقد غزا شعره المشيب قبل أوانه فلا بأس من صبغه لانتفاء التدليس في مثل هذه الحالة.
وفي برنامجه هذا أيضاً، اتصل مجموعة من المسلمين العاملين في فنادق إحدى دول شمال أفريقيا وقالوا له بأنّ فنادقهم تجبرهم على تقديم المشروبات الكحولية للزبائن، فهل يجب أن يتركوا هذه الوظيفة؟ فقال لهم القرضاوي: إنّ ترككم لهذه الوظيفة يمكّن غير الملتزمين من السيطرة على هذه الوظائف، وبذلك يستحكم الفساد ويتضاءل الأمل في إصلاح هذا القطاع المهمّ في الدولة. ونصحهم بأن يظلّوا في وظائفهم رغمّ أنّ هناك حديثاً نبوياً يقول: laquo;لعن الله الخمر ولعن شاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنهاraquo;.
وفي مقابلة صحافية أفتى القرضاوي بجواز اشتراك الجندي الأمريكي المسلم في القتال ضدّ المسلمين في أفغانستان والعراق إذا أُمر بذلك، رغم أنّه يعرف قول الله تعالى: laquo;ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها وغضب الله ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماًraquo;، ويحفظ قول الرسول عليه الصلاة والسلام: laquo;كلّ المسلم على المسلم حرامٌ دمه وماله وعرضهraquo;، ولكنّه كان يقول بأنّ الضرر المترتّب على عدم انقياد الجندي الأمريكي المسلم لأوامر قيادته كبير جداً، وسيشكك القيادات الأمريكية في ولاء المسلمين لأمريكا، مما يهدّد آلاف الجنود المسلمين بالتسريح من الجيش، ويهدد ملايين غيرهم من المواطنين الأمريكيين المسلمين بسحب جنسيتهم وتشتت أسرهم.
قد نتفق مع العلامة القرضاوي وقد نختلف معه في آرائه المخالفة للسائد في الخطاب الإسلامي، ولكنّي أرى أنّ القرضاوي ومن سار على نهجه من المتقدّمين والمتأخرين هم خير مثال على محاولة تطبيق الشريعة الإسلامية وفقاً للمقاصد والغايات، ومحاولة التخلّص من قيد النصّ واللجوء إلى التأويل وإيجاد المخارج لجعل أحكام الشريعة متوافقة مع العصر ومتّسقة مع العقل والمنطق.
وفي تصوّري القاصر، فإنّ مثل هذه الفتاوى تشكّل معبراً يصل بين العصر الذي يحاول فيه أهله استحضار الماضي للإجابة على أسئلة الحاضر، وبين عصرنا الذي فرض فيه العقل كلمته، وأصبح فيه الإنسان مهيأً لاستصدار القوانين والأحكام والأنظمة الأنفع له والأصلح لعصره دون الالتزام بحرفية النصوص.
وأتصوّر أنّ السنوات المقبلة ستشهد الكثير من الفتاوى التي نحسبها شاذّة، وهي بالفعل شاذّة إذا قارنّاها بما ترسّخ في الخطاب الديني السائد، أما بالنسبة للعصر الحديث التي صارت فيه الغلبة للعقل، وأصبحت السيادة فيه للمنطق فإنّ هذه الفتاوى ليست سوى محاولة لمجاراة للعقل والمنطق والسياق التاريخي الذي إن لم تتمّ مجاراته فإنّ الهوّة بين الخطاب الديني وبين الواقع المعاش ستتعاظم، ولن يجد هذا الخطاب له من أنصار سوى الحالمين والسذّج.