رغيد الصلح

تعمل الحركات الانفصالية عادة في ظروف صعبة، وتتمركز في أكثر الأحيان في الأطراف وبعيداً عن مراكز السلطة ومواقعها . وإذا لم تسعفها الجغرافية في الاحتماء بالاطراف البعيدة عن متناول السلطة (الجبال العالية الحصينة، الادغال، قواعد في دولة مجاورة الخ . . .) فإنها تمارس مهامها بسرية شديدة . فضلاً عن ذلك فإن الحركات الانفصالية تسعى إلى الاحتماء بالمعارضات غير الانفصالية وبالتستر بشعاراتها وبرامجها بانتظار الظروف المناسبة للافصاح عن أهدافها الحقيقية . ويكاد هذا النهج يطبع سائر الحركات الانفصالية سواء تلك التي تسعى إلى الاستقلال عن الدول الصناعية المتقدمة أو التي تحارب من أجل الانفصال عن دول نامية .

لقد سار جيش التحرير الإيرلندي ldquo;I .R .Ardquo; إيرلندا الشمالية على هذا الطريق تقريباً إذ كان يمارس عمله بسرية شديدة، ويعمل على خلق بؤر أمان لمقاتليه في المناطق السكانية ذات الاغلبية الكاثوليكية . بالمقابل، عملت السلطات البريطانية على حرمان جيش التحرير الإيرلندي من أية مشروعية سياسية وإلى اقصائه عن الحياة العامة، وحرمانه من أي دعم داخلي أو دولي ومن ثم إلى اجباره على العمل في الظلام . ومع التصعيد في الاعمال الإرهابية التي مارسها الجيش الإيرلندي، اتجهت الحكومة البريطانية إلى ممارسة المزيد من التشدد تجاهه، وهكذا قضى بعض أعضائه نحبهم في السجون بعد اعلانهم الاضراب عن الطعام احتجاجاً على عدم تلبية المطالب الإيرلندية . وطالت التشريعات العقابية التي أصدرتها السلطات البريطانية المواطنين الأمريكيين الذين كانوا يمدون الثوار الإيرلنديين بالدعم المالي . ولم تتراجع الحكومة البريطانية عن هذه السياسة حتى تخلّى الجيش الإيرلندي عن حمل السلاح ضد الدولة وتبنى جناحه السياسي ldquo;شين فينrdquo; نهج التفاوض والسلم والعمل في إطار الكيان البريطاني وليس خارجه . وتكرر هذا المشهد تقريباً مع ثوار الباسك في إسبانيا الذين طالبوا بانفصال شمال البلاد واعلان دولة مستقلة في تلك المنطقة المحاذية لفرنسا . فحركة ايتا ldquo;E .T .Ardquo; الباسكية الانفصالية تتحرك بعيداً عن مركز السلطة خاصة في المناطق ذات التضاريس الطبيعية الصعبة وتعمل بسرية كبيرة . ورداً على مطلبها الانفصالي ولجوئها إلى أعمال الإرهاب، فقد عمدت الحكومة الاسبانية إلى تحريم نشاطها وصنفتها كمنظمة إرهابية، واقنعت الاتحاد الأوروبي بتبني هذه النظرة، وبالتعاون مع مدريد على قمع ايتا ومنع نشاطها . ورغم أن ldquo;ايتاrdquo; سعت إلى ولوج الحياة السياسية على أساس أن هذا الطريق قد يجر الحكومة الاسبانية إلى تقديم بعض التنازلات إلى الباسك، إلا أن مدريد لم تتجاوب مع هذا المسعى .

بالمقارنة بين مسار الحركات الانفصالية في إيرلندا وإسبانيا، من جهة، والمسار الذي اتبعته الحركات الانفصالية في المنطقة العربية، نجد أن هذه الحركات الأخيرة أوفر حظاً من الحركات المماثلة في أوروبا أو في بعض الدول الأخرى . ففي السودان حيث بدأت الحركات الانفصالية في جنوب السودان منذ أواسط الخمسينات، نجدها الآن تتأهب لتحقيق هدفها أي اقامة دولة مستقلة تماماً عن الشمال بعد تنفيذ استفتاء باتت نتائجه معروفة سلفاً . من هذه الناحية يوجد، إذن، فارق ملموس بين التحرك الانفصالي في أوروبا وبينه في السودان . ولكن الفارق بين الاثنين لا ينحصر في النتائج فحسب، وانما يمكننا أن نلاحظ وجود فارق مهم في التطورات التي أثرّت على مصير التحركين . ففي أوروبا استمر ضغط الحكومة المركزية يلاحق جيش التحرير الإيرلندي وrdquo;ايتاrdquo; خلال كافة مراحل نشاطهما بغرض اجبار الحركتين على التراجع عن الخيار الانفصالي والعسكري . بالمقارنة فإن الحركات الانفصالية، أو بالأحرى البعض منها، في البلاد العربية لا يسير على طريق تحقيق أهدافه فحسب، بل انه يتقدم على هذا الطريق بينما هو يتحصن في مواقع قوية داخل السلطة المركزية إن لم يكن على رأسها .

هذا الوضع ينطبق على الحركة الشعبية لتحرير السودان . فسلفا كير زعيم الحركة هو نائب رئيس الجمهورية السودانية . وللحركة وزراء في الحكومة المركزية وممثلين داخل ملاكاتها واطاراتها . ويضطلع نائب الرئيس والوزراء بدور مهم في مراقبة مدى التزام الحكومة المركزية باتفاقية السلام الشامل وبالتحضير الجاد للاستفتاء . فضلاً عن ذلك فإن حكومة جنوب السودان تخضع لنفوذ الحركة وعملت منذ بداية ولايتها على تحضير الاجواء المناسبة للانفصال .

ما يصح على النموذج السوداني، ينطبق إلى درجة أكبر على العراق . فالحركة الكردية التي تعمل على تطبيق مبدأ ldquo;حق تقرير المصيرrdquo; كما أعلن الزعيم الكردي مسعود البارزاني أمام المؤتمر الأخير للحزب الديمقراطي الكردستاني تمثل بالرئيس العراقي جلال الطالباني، فضلاً عن عدد مرموق من الوزراء والمسؤولين مثل هوشيار زيباري وزيراً للخارجية وبكر زيباري القائد العام السابق للقوات المسلحة العراقية . وتتمتع حكومة اقليم كردستان التي يرأسها البارزاني بغالبية مقومات الحكومات المستقلة، إذ أنها تبسط سيطرتها الكاملة على الوضع الأمني والدفاعي في الاقليم عبر ldquo;البيش مركهrdquo;، وعبر منع الجيش العراقي من دخول الشمال . كما انها تقوم عملياً بمحو الروابط الثقافية واللغوية مع بقية اجزاء العراق عبر تحويل اللغة الكردية إلى لغة رسمية للاقليم، والاغفال الواقعي لتعليم اللغة العربية كلغة الزامية لابناء الاقليم .

محورية الدور الذي تضطلع به الحركة الكردية في الشأن العراقي يبرز من خلال الدور الحاسم الذي مارسه مسعود البارزاني في تشكيل الحكومة العراقية عندما جمع الزعماء العراقيين ومشى بهم على طريق الائتلاف . هل يوظف هذا الدور في خدمة وحدة العراق أم تشطيره؟ هل يستخدم الزعماء الأكراد نفوذهم الواسع والذي يفوق نفوذ سائر الزعماء العراقيين الآخرين من أجل الحفاظ على وحدة الدولة الترابية العراقية مع اعتماد خيار فدرالي حقيقي يحقق للاكراد حاجاتهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، أم يستخدمونه لفصل شمال العراق واعلان دولة كردية مستقلة فيه؟

الأرجح أن تتجه الحركة الكردية إلى الخيار الأخير، كما المح رئيس حكومة الاقليم في حديثه إلى المؤتمر وكما فعلت الحركة الشعبية لجنوب السودان من قبل . حتى ولو لم تعلن الحركة الانفصال في العراق فإنها سوف تتمكن باستمرار من الحصول على ثمن مرتفع جداً لقاء البقاء في الاطار العراقي . يبقى السؤال هنا لماذا تنجح حركات الانفصال في البلاد العربية وتفشل في أوروبا أو حتى في دول أخرى غير أوروبية؟ هناك اجابات متعددة على مثل هذا السؤال، أبرزها هو الفارق بين الحركات الانفصالية في المنطقة العربية التي تلقى دعم قوى كبرى في العالم، أي قوى تلعب لعبة صفرية مع العرب وتسعى الى اضعافهم حرصاً على مصالحها النفطية وغير النفطية، وبين حركات انفصالية لا تلقى مثل هذا الدعم .