بلال الحسن
تنعقد القمة العربية في ليبيا أواخر شهر مارس (آذار) المقبل، وهي تواجه حالة حرب تخيم على المنطقة العربية، مصدرها إسرائيل بسبب نظرتها إلى إيران كخطر نووي محتمل. وفي جو حالة الحرب هذه تلامس المخاطر كلا من لبنان وسورية وفلسطين (قطاع غزة) بشكل مباشر وعسكري، وتلامس دول الخليج العربي كلها بشكل غير مباشر، إنما من دون أن يكون لها وضع عسكري. هذا يعني أن القمة العربية المقبلة في ليبيا ستواجه مشكلة استراتيجية كبرى، ومهمتها الحقيقية أن تبحث له عن حل، بما يحقق للعرب خطة وتضامنا وفعلا يؤثر على مستقبل الأحداث.
وللقمة العربية تاريخ في هذه المسائل، تاريخ إيجابي، لأنه ليس صحيحا القول الشعبي الشائع بأن العرب لا يتفقون ولا يفعلون شيئا.
ففي عام 1964 اجتمع العرب في قمة كان موضوعها إقدام إسرائيل على تحويل مياه نهر الأردن باتجاه الأراضي التي تسيطر عليها، ووضعت القمة خطة لتحويل روافد نهر الأردن، ووضعت أيضا خطة عسكرية لحماية عمليات تحويل الروافد، وأقرت تشكيل قيادة عسكرية عربية موحدة برئاسة الفريق علي علي عامر. ووقعت بعد ذلك حرب عام 1967 بنتائجها المأساوية المعروفة، والتي نبهت العرب إلى الخلل الفادح في الميزان العسكري مع إسرائيل وضرورة معالجته.
وبدلا من الندب على الأطلال انعقدت القمة العربية في الخرطوم، وشهدت تلك القمة مصالحة فورية بين مصر والسعودية تجاوزت ما خلفته حرب اليمن. وقررت القمة بمبادرة سعودية جزائرية ليبية وخليجية توفير الميزانيات اللازمة لإعادة بناء الجيوش العربية وبخاصة جيوش مصر وسورية والأردن. وبسبب ذلك، وحين وقعت حرب عام 1973، استطاع العرب تحقيق انتصار laquo;استراتيجيraquo; على إسرائيل، دفعها باتجاه التفكير في التفاوض مع العرب، وبخاصة أن سلاح النفط كان جزءا من المعركة بقرار سعودي.
وبعد حرب إسرائيل ضد لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1982، اجتمعت القمة العربية في فاس وأقرت مشروع فاس التفاوضي (مشروع الملك فهد). وكانت للعرب بعد هذه القمة خطتهم السياسية التي احتضنت القضية الفلسطينية حسب منظور موازين القوى في تلك المرحلة.
وبعد فشل تفاوض اتفاق أوسلو في كامب ديفيد 2000، بادرت القمة العربية المنعقدة في بيروت عام 2002، إلى إنجاز مبادرة السلام العربية (مبادرة الملك عبد الله)، لتضع إطارا عربيا للتفاوض مع إسرائيل، يدعم موقف المفاوض الفلسطيني.
وعلى ضوء هذا التاريخ للقمم العربية، يطرح سؤال نفسه الآن على قمة ليبيا: هل ستكون جاهزة لتقديم شيء جديد يتعامل مع أجواء الحرب التي تخيم على المنطقة، من إسرائيل إلى إيران وما بينهما؟ إن المدقق في الأحداث والمواقف يرى أولا حالة من التباعد العربي الثنائي والجماعي. دول متخاصمة ثنائيا، وكتل عربية مبتعدة. وينشغل كثيرون الآن من أجل إنجاز مصالحات عربية تفتح طريق ذهاب الجميع إلى قمة ليبيا. لكن الخطوة الكبيرة الغائبة هي ماذا ستبحث هذه الدول فيما بينها بعد أن تتصالح، وبعد أن تجتمع؟ هنا يلوح أفق مغلف بالضباب، وهنا تفرض الخلافات نفسها من جديد حتى بعد المصالحات. إذ لا يستطيع أحد أن ينكر أن العرب منقسمون بعمق، بعضهم يرى في احتلال أميركا للعراق شرا مستطيرا، بينما البعض يرى فيه خيرا وبركة. بعضهم يرى في تنامي قوة حزب الله إنجازا في مواجهة إسرائيل، بينما يرى البعض في ذلك توريطا للعرب وتدميرا للبنان. بعضهم يرى في سياسة أميركا في المنطقة العربية نصيرا وحليفا، بينما يرى البعض في هذه السياسة منبع الخطر على المنطقة كلها. وفي ظل هذا التناقض في الرؤى يصبح من الصعب تصور إمكانية بلورة سياسة عربية تضامنية موحدة. فالعدو أحيانا لم يعد هو العدو. ومن يراه البعض صديقا يراه البعض الآخر شرا. فماذا ستكون نتائج قمة ليبيا إذن؟ الأرجح أنها ستنعقد على أرضية مصالحات، ثم تأتي القناعات والتوجهات، فتنسف المصالحات نسفا، وربما تمضي بها نحو حالة تفتت أخطر بكثير مما كان عليه الحال قبل القمة.
لم يحدث في التاريخ العربي الحديث أن تناقضت الرؤية إلى المصالح بهذه الطريقة. ولم يحدث في التاريخ العربي الحديث أن تناقضت الرؤية إلى الأصدقاء والأعداء بهذه الطريقة. ولذلك فإن المسألة المعروضة على العرب الآن تتجاوز انعقاد القمة، وتتجاوز إصلاح حال خصومات القمة. المسألة المعروضة هي الاتفاق أولا على توصيف الأخطار هل تنبع من هنا أم من هناك؟ والاتفاق على توصيف الأصدقاء والأعداء هل هم هؤلاء أم هؤلاء؟ وما لم يتم ذلك فإن كل موقف يطرح، صغيرا كان أم كبيرا، سيكون مدعاة للخلاف بدل الاتفاق، وتفشل على أثر ذلك القمة العربية، وتزداد حالة التفكك في المنطقة.
ولو أن ليبيا تستطيع أن تبادر من خلال جهودها، أو عبر الجامعة العربية، إلى تكليف هيئة ما، تستخلص تصورا استراتيجيا عربيا جامعا، ثم تمضي به إلى العواصم العربية وإلى القادة العرب، تناقشه معهم وتنال منهم المباركة عليه، لكان من الممكن الحديث عن قمة عربية تنعقد في ليبيا، وتستطيع أن تخرج بنتائج لصالح العرب. أما من خلال ما هو جار حتى الآن، فإن الأمور لا تبشر بخير.
وها نحن نتحدث عن القمة العربية، وعن أجواء الحرب، بينما تدور حرب من نوع خاص داخل مدننا وعواصمنا. فحادث اغتيال محمود المبحوح في إمارة دبي، يبرز حرب المخابرات التي تديرها إسرائيل وتستبيح بها أمن عواصمنا. حادث اغتيال المبحوح ليس حادثا منعزلا. قبله تم اغتيال عماد مغنية في دمشق. قبله جرى استهداف موقع في شمال سورية، وأحداث أخرى كثيرة جرت في هذا المكان أو ذاك، تحاول بها إسرائيل أن تظهر قدرتها على الإيذاء مستغلة أجواء الحرب السائدة. وما جرى في دبي يمكن أن يجري في بلد عربي آخر وآخر، الأمر الذي يستدعي ألا يتم البحث في مسألة اغتيال المبحوح كحادث اغتيال فردي، وضرورة اعتباره جزءا من عمل عسكري، وجزءا من حالة حرب تخيم على المنطقة.
والسؤال: لماذا تدير إسرائيل حرب مخابرات ضد العرب؟ المحللون يقولون إن جو الحرب المتأزم في المنطقة هو في جانب منه متأزم بسبب حالة التوازن السلبي القائمة، فالأطراف لا تستطيع أن ترى في الحرب انتصارا لها، وخصومهم لا يستطيعون أن يروا في الحرب انتصارا لهم. الكل يرى أن في حروب هذه المرحلة نتائج متوازنة للطرفين، مؤذية للطرفين، مدمرة للطرفين، ولذلك فإن الكل يتريث بشأنها، بمن فيهم الكبار، خشية أن تبدأ الأمور ثم تخرج عن السيطرة.
لكن إسرائيل تخشى مسألة التوازن في الحرب أكثر من سواها. لأن نظريتها الأمنية قامت منذ تأسيسها على أنها القوة الرادعة في وجه الجميع. وهي إذ بدأت تشعر بأن قوتها الرادعة بدأت تتخلخل، فإنها تخشى من التسرع في خوض مغامرات جديدة تؤكد هذه الحقيقة مرة أخرى. ولكن هذا لا يعني أن إسرائيل لا يمكن أن تقع في خطأ تقديري ما، فتقوم بعمل يشعل الدنيا من حولها، وفي عقر دارها. وهذا ما يجب أن تتحسب له القمة العربية أيضا.
في السياسة.. ترسم الدول سياساتها حسب وزنها البشري، وحسب مكانتها الاقتصادية، وحسب نوع الخصوم المحيطين بها، وحسب طبيعة تحالفاتها، والفشل في السياسة هو أن تعتبر الدول نفسها جزرا منعزلة، آنذاك تضمر الدولة، ويطمع بها الآخرون. وهذا ما لا يجب أن يحدث في قمة ليبيا. ليس من أجل الحرص على التضامن العربي فقط، بل ومن أجل الحرص على مصلحة كل نظام على حدة. وأمامنا الآن أمثلة عربية محددة لأنظمة كبيرة، يتقلص نفوذها باستمرار، لمجرد أنها لا تفكر إلا بما هو داخل حدودها فقط.
التعليقات