أحمد غلوم بن علي

الطائفية والقبلية تساهمان في عدم التوازن الاجتماعي والسياسي... والدولة عادة ما تكون الملجأ الأساسي للأطراف المتنازعة
استفادت الدولة الحديثة من الإرث السياسي للدولة التسلطية العربية الأولى , وبخاصة عدم منح الشرعية القانونية للأحزاب والتنظيمات السياسية, فالطائفية القبلية التي أنتجها غياب دور الأحزاب في التنظيم السياسي للمجتمع أصبحت منفذا أكثر قدرة وقوة للدولة من الصيغة البيروقراطية القديمة.
وقد تناولنا في المقال السابق أن فرضيتنا تنطلق من أن تسلطية الدولة فيما قبل العقد الأخير من القرن الماضي اختلفت بصورة دراماتيكية مع موجة التحولات الديمقراطية والنظام العالمي الجديد الذي عولم قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان, فالتسلطية الحديثة أو الثانية شرعت باستخدام وسائل أكثر فاعلية في اختراق المجتمع من جانب, ومن جانب آخر وسائل امتازت بأنها عبر المجتمع نفسه وليس عبر الدولة مباشرة, وكانت إحداها الطائفية والقبلية.
فبالنسبة للدولة يكمن الهدف الأساسي من تجذر الصيغ الاجتماعية من قبلية في المزيد من الاختراق للمجتمع وتحجيم تطلعاته وطموحه السياسي, وهو يعني بعبارة أخرى إعادة هيكلة لصورة شرعية النظم القائمة في عين المجتمع.
فالطائفية والقبلية تساهمان في عدم التوازن الاجتماعي والسياسي, والدولة عادة ما تكون في هذه المراحل المأمن والملجأ الأساسي للأطراف المتنازعة أو التي تسعى للحفاظ على هوياتها ووجودها, وبهذا تظهر معايير جديدة لشرعية النظام بالنسبة للمجتمع, فالنظام القادر على إشعار كل طائفة وكل قبيلة وكل طبقة اجتماعية أنها السند والظهر الذي تستند إليه هذه التكتلات هو النظام القادر على فرض شرعيته بصورة مقبولة على المجتمع.
ثم إن موجات عدم الاستقرار السياسي التي تحدثها الصيغة الاجتماعية القائمة تساعد الدولة على فرض أجندتها وخياراتها على المجتمع, فالمقايضات السياسية تعد وسيلة تفاوضية مثمرة بالنسبة للدولة مع أطراف النزاع لفرض وتمرير مطالبها ومشاريعها السياسية والاقتصادية, ولا ننسى من جانب آخر أن من فوائد الاحتراب الطائفي والنعرة القبلية تحجيم الطموح السياسي بل والتنموي, فالأفق الذي تسعى إليه هذه التكتلات الاجتماعية لا يتعدى المشاركة الشكلية في السلطة ومزيدا من دعم الدولة لها في شكل دعم مالي أو معنوي سياسي.
لابد هنا قبل المتابعة من القول أن هذه الصيغ المذهبية والعشائرية لم تعدم في المجتمعات العربية, بل لم تتردد الدولة يوما في استثمارها, وهو ما أشار إليه الدكتور خلدون النقيب بتسميته لها بالقوى الموازية للقوى والمؤسسات التضامنية على حد تعبيره, إلا أن المفارقة تكمن اليوم في أمور عدة, منها أنها باتت اليوم طائفية وقبلية منظمة تنظيما عاليا, فالعملية السياسية الديمقراطية ساعدت بصورة كبيرة على ترتيب كل جماعة لأوراقها وهياكلها, ومن جانب آخر يمكننا القول أنها اليوم تمأسست في صحف وشركات تجارية وقنوات فضائية وغير ذلك.
ثم إن الدولة التسلطية الأولى لم تساهم بشكل أساسي في صناعتها, أما اليوم فالدولة شريك أساسي في صناعة هذه القوى المتطرفة, ولعل السبب يعود إلى أن الدولة في السابق لم تكن بحاجة ماسة لها حيث كانت تحتكر جميع السلطات والقوى المختلفة, وبهما كانت تفرض بيروقراطيتها على المجتمع وتخترقه من خلالها, أما اليوم وبعد تنازل الدولة لأجزاء من سلطاتها لصالح التحول الديمقراطي فإن الدولة اليوم تعتمد على هذه الصيغ بشكل أساسي في اختراقها للمجتمع.
لكن مثل هذا الاختراق يصعب تحققه بوجود تنظيمات وأحزاب سياسية تمارس تنظيما سياسيا للمجتمع وتعيد له المنهجية في تفكيره ووعيه السياسيين, ولن تستطيع هذه الأحزاب أن تمارس هذا الدور إلا بتقنينها في تكتلات سياسية, وبعبارة أخرى, إذا اعتمدت الدولة على قانون يشرع ما هو قائم من أحزاب فإن هذا يعد وبالا إضافيا لما هو معاش حيث بذلك تشرع أحزابا سياسية مذهبية وأحزابا سياسية أخرى عشائرية, أما القانون (النوعي) الذي يشرع وينظم الأحزاب في تكتلات سياسية, مدمجا بذلك الأحزاب المختلفة المذاهب والمشارب في أحزاب (وطنية) معدودة فإن ذلك هو ما يساهم في
تنظيم المجتمع وتحصينه من العودة للصيغ الاجتماعية القائمة.
فالأحزاب المتكتلة في كيانات سياسية وطنية إنما تساهم في انضاج الصيغ الاجتماعية والدينية عبر خطابها السياسي, فهذا الأخير قادر على إعادة ترتيب أولويات المجتمع وبلورة خياراته السياسية الوطنية, فوجود خطاب سياسي يساهم في خلق حراك سياسي نظري وعملي ينضج من خلاله الوعي السياسي المجتمعي ويساهم في تفكيك حجج التطرف والتعصب.
إن للمشروع والأجندة التي تحملها الأحزاب والتنظيمات السياسية القدرة على صهر الفرقاء في مشاريع مشتركة, ودمج المشاريع المتناحرة في مؤسسات مشتركة, لكن بطبيعة الحال لن يكون ذلك عبر ما هو قائم كما ذكرنا آنفا, وإنما عبر انصهار هذه القوى السياسية في هياكل واحدة مقننة.
ما يمكن قوله في النهاية أن استمرار وجود منفذ للدولة إلى المجتمع يكمن في استمرار حالة الاحتراب السياسي والتوهان الاجتماعي وهو مالا يمكن حله في تأصيل قيم التسامح والتعايش والسلم الأهلي أو الاصلاح الديني فحسب وإنما عبر إيجاد ميكانزمات سياسية تعيد تنظيم المجتمع سياسيا.