برهوم جرايسي
بغض النظر عما إذا كانت المفاوضات quot;غير المباشرةquot; التي وافق عليها الجانب الفلسطيني بدعم الجامعة العربية ستنطلق، أم ستتعطل مشاريع الاستيطان التي لا يكف الاحتلال عن الكشف عنها يوميا، فإن الموافقة الأولية تبقى إشكالية من الدرجة الأولى، لأنها جاءت في أوج الإعلان عن تلك المشاريع الاستيطانية، وهذه المفاوضات تجري بشروط إسرائيلية وبخاتم الإدارة الأميركية.
فإسرائيل لم تكف عن الإعلان عن المشاريع الاستيطانية الواحد تلو الآخر، وبشكل خاص منذ أن أعلن مجلس وزراء خارجية الدول العربية عن دعمه لإجراء مفاوضات quot;غير مباشرةquot; مع إسرائيل لمدة أربعة أشهر.
فبالتزامن مع إعلان جامعة الدول العربية أعلنت حكومة الاحتلال عن بناء 500 بيت استيطاني في أحد الأحياء الاستيطانية في شمال القدس المحتلة، ليكون هذا جزءا من مشروع يضم 1100 بيت استيطاني، ولتعلن أيضا، مع زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إسرائيل يوم الثلاثاء الماضي قرارها ببناء 1600 بيت استيطاني في حي استيطاني آخر شمالي القدس المحتلة.
ولكن الذروة كانت يوم الخميس الأخير، حينما كشفت صحيفة quot;هآرتسquot; أنه لدى سلطات الاحتلال خطة لبناء ما لا يقل عن 50 ألف بيت استيطاني في القدس المحتلة، لتوضح صحيفة quot;يديعوت أحرونوتquot; أن 5600 بيت من المفترض البدء في بنائها في أي لحظة، وأن 6400 بيت استيطاني في المراحل النهائية من إجراءات القرار للبدء في بنائها.
وعلى مر كل هذه الأيام، فإن الجريمة الاحتلالية مستمرة في القدس الجريح، فقد أعلن رئيس بلدية الاحتلال عن عزمه تدمير 40 بيتا فلسطينيا في حي سلوان التاريخي القريب من الحرم القدسي الشريف، ثم لحق به نائبه ليعلن عن نية الاستيلاء على بيوت فلسطينية أخرى في حي الشيخ جراح وتحويلها لعصابات المستوطنين الإرهابيين، والقائمة تطول على مر الأيام.
هذا إلى جانب سلسلة من المشاريع الاستيطانية المختلفة في أرجاء الضفة الغربية المحتلة، تحت غطاء قرار تجميد الاستيطان المزعوم.
طوال هذه الأيام لم نسمع من الإدارة الأميركية موقفا واحدا يبعدها ولو ملليمترا واحدا عن الموقف الإسرائيلي الذي تلتزم به، وفي نهاية الأمر تطبقه على الأرض، فلم يصدر عنها بيان واضح رادع لحكومة الاحتلال لوقف كافة هذه المشاريع، وفي المقابل فإن الشروط التي فرضتها على المفاوضات غير المباشرة تخدم في الأساس الجانب الإسرائيلي، لأنه عمليا هذه شروط حكومة بنيامين نتنياهو، وعلى رأسها عدم ربط تجميد الاستيطان باستئناف المفاوضات.
ولكن الأمر الأبرز في هذا المجال، هو ما كشفت عنه صحيفة quot;هآرتسquot; الإسرائيلية بأن المفاوضات quot;غير المباشرةquot; لن تبدأ من حيث انتهت بين رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت والرئيس الفلسطيني محمود عباس، وأنه بالنسبة للولايات المتحدة فإن أي تفاهمات تم التوصل إليها في تلك المحادثات ليست ملزمة لها ولإسرائيل، وهذا أيضا شرط إسرائيلي أطلقه نتنياهو منذ أشهر.
ورغم أنه لم يتحقق الكثير في المفاوضات السابقة، فإن هناك نقاطا جديرة بالتمسك بها، مثل عرض حكومة أولمرت تسليم الفلسطينيين مساحة مطابقة للمساحة التي احتلت في عام 1967، مع إمكانية تبادل أراض مع مناطق 1948، إلا أن الخلاف تمركز حول نسبة التبادل.
والسؤال الذي يسأل: ما الذي يمكن تحقيقه في مفاوضات quot;غير مباشرةquot;، بعد كل هذه السنين من المفاوضات المباشرة التي دمرتها إسرائيل بشكل منهجي، لأنها رفضت جوهر الحل المفروض أن يكون؟
وهذا ليس سؤال المليون، بل النتيجة معروفة سلفا، وهي أن هذه المفاوضات لن تفضي إلى شيء لأن النتيجة ملموسة على الأرض، والموقف الإسرائيلي الحقيقي ليس بما يقال، بل بما ينفذ على الأرض، من استيطان وجدار عنصري وحصار وتنكيل وقتل وتدمير.
لقد اتجه الفلسطينيون إلى المفاوضات quot;غير المباشرةquot;، بعد عدم تنفيذ أي من الشروط التي فرضتها القيادة الفلسطينية، وهي شروط واقعية ويجب الإصرار على أنها شروط، وعلى رأسها وقف الاستيطان الكامل في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة وأولها القدس المحتلة.
ولا فائدة من مناقشة الموقف العربي الرسمي الداعم لإجراء مفاوضات quot;غير مباشرةquot; لمدة أربعة أشهر كون أن الأمر بات من ورائنا، والمهم الآن هو شكل الحراك في الأسابيع المقبلة، فمن الأفضل لمفاوضات كهذه أن لا تبدأ إطلاقا، ولكن إن بدأت، فيجب التمسك بفترة الأشهر الأربعة، وإلا تحول الأمر إلى مهزلة أكبر، وإلى مساعدة إسرائيل على الظهور أمام الرأي العام والعالمي وكأنها تخوض حراكا تفاوضيا, في الوقت الذي تواصل فيه تدمير الأرض الفلسطينية, وتحرم الإنسان الفلسطيني من حق الحياة الطبيعية.
إن الموقف السابق الذي صدر عن منظمة التحرير الفلسطينية على مدى عشرة أشهر، أسهم في تهدئة الأجواء الداخلية الفلسطينية وأعاد بعضا من الهيبة للقرار الفلسطيني، ولا نريد الاستعجال لنقول: إن قرار quot;المفاوضات غير المباشرةquot; أضعف المشهد الفلسطيني الداخلي نوعا ما، ولكن استفحال هذا الخطأ مستقبلا من شأنه أن يعيد الموقف الفلسطيني إلى دوائر سوداوية تهدد البنية الداخلية الفلسطينية، ومستقبل القضية الفلسطينية ككل.
إن الموقف الفلسطيني الحقيقي يجب أن يستند في هذه المرحلة إلى معطيات واقعية ملموسة لا لبس فيها, وهي: أولا أن في إسرائيل قيادة ترفض الحل الدائم استراتيجيا، وتسارع من أجل فرض المزيد من الحقائق على الأرض، وتريد مفاوضات من أجل المفاوضات.
ثانيا: الإدارة الأميركية الحالية تواصل تسجيل التراجعات عن مواقفها المعلنة حتى النصف الأول من العام الماضي.
ثالثا: الشارع الفلسطيني عاد إلى أسلوب نضاله الشعبي، فالمظاهرات الشعبية ومواجهات الحجر تنتشر في أنحاء مختلفة من الضفة بما فيها القدس، والحقيقة الواضحة هي أن إسرائيل الرسمية والعسكرية ترتعد من هذا النضال الشعبي, كونه قادرا على تجنيد الرأي العام من حوله بسرعة، وكل صورة لفلسطيني يحمل حجره أمام دبابة إسرائيل وجنود مدججين تنتشر في العالم, هي خسارة مباشرة لصورة إسرائيل في العالم.
وعلى القيادة الفلسطينية أن تستثمر هذا النضال، وعلى الفصائل الفلسطينية أن تعززه خاصة في هذه المرحلة، لأنه وفق ظروف المرحلة هو العامل الضاغط الأقوى على الرأي العام العالمي, ومن ثم على حكومات دول القرار في العالم.
التعليقات