عبدالله السويجي

في البحث عن تكتيكات تعطي المفاوض العربي مساحة للمناورة، طرحنا في المقال السابق موضوع سلاح ردع عربي، الذي ليس بالضرورة أن يكون سلاحاً نووياً أو عسكرياً بشكل عام، وبما أن العرب لديهم حساسية من موضوع السلاح العسكري (الذي يحتاج إلى استراتيجية عربية شاملة)، كما أن لديهم عقدة السيادة بشأن التنسيق الاقتصادي والثقافي، فإن أمامهم ورقة مهمة جداً وقوية للغاية يمكن استخدامها في تفاوضهم المباشر أو غير المباشر مع الجانب الصهيوني، وتتجسد هذه الورقة في الاستفتاء الشعبي .

نحن نعلم أن هذا التكتيك يتطلب أجواء قد لا تتوفر في الوطن العربي، أو عند الطرف الفلسطيني على الأقل، بسبب غياب الوحدة السياسية، وغياب الانسجام في المواقف والرؤى، نحو أساليب إدارة الصراع مع العدو الصهيوني، وبعيداً عن الجامعة العربية وقدراتها ونظامها الداخلي المحيّر، وبعيداً عن التشرذم في الموقف العربي الذي قد يصل إلى التنافر أحياناً، وقريباً من الأراضي الفلسطينية، و(السلطة الشرعية، والحكومة المقالة) وغير ذلك، فإننا نجد صعوبة بالغة في تنفيذ أي استفتاء، ولكنه غير مستحيل .

وفي الطرف الصهيوني، وعلى الرغم من امتلاكه أسلحة ردع نووية واقتصادية وسياسية وديمغرافية ودينية، فإنه يلجأ إلى سلاح ردع آخر قد يكون أقوى من كل تلك الأسلحة، ولا سيّما في مشوار التفاوض، وهذا السلاح هو سلاح الاستفتاء، أي اللجوء إلى الشعب، الذي يتحول إقراره لقانون إلى قرار أشبه بالقرارات المبرمة التي تستعصي على التغيير والخدش، وهو أسلوب ترمي الحكومة الصهيونية من ورائه الإظهار للعالم، مدى الديمقراطية التي تتمتع بها، وتضع في يدها ورقة تستخدمها أمام الضغط الأمريكي (إن وجد)، وأمام الرعب العربي المتصاعد (الموجود) . وحتى تكون المسائل قانونية وواضحة، فقد أقر الكنيست الصهيوني في شهر يوليو/ تموز من العام الماضي مشروع قانون يقضي بإلزام الحكومة الصهيونية الحالية أو أي حكومة قادمة، بإجراء استفتاء شعبي حول أي من قراراتها ذات الصلة بالانسحاب من القدس الشرقية أو هضبة الجولان السورية اللتين تحتلهما الدولة الصهيونية منذ العام ،1967 وأعلنت ضمهما لاحقاً إلى دولتها العنصرية، أو أي انسحاب صهيوني من (الأراضي التي يمارس عليها الكيان سيادته)، ويسري هذا القانون على المستوطنات أيضا، إذ وافقت اللجنة اللوائية للتنظيم والبناء في بلدية القدس، بتاريخ 21 فبراير/ شباط الماضي على طرح مخطط استيطاني جديد لبناء 549 وحدة سكنية، وفي حال أفضت نتيجة الاستفتاء إلى عدم الانسحاب من الأراضي العربية التي تحتلها الدولة الصهيونية منذ العام ،1967 فإنها ستكون ملزمة في الحاضر والمستقبل، وستكون سلاحاً في يد المفاوض الصهيوني، الذي يستند إلى (قرار شعبي) يدعم موقفه أمام المواقف الأخرى .

بعد أيام، وفي 27 مارس/ آذار الحالي، من المقرر أن تنعقد قمة عربية في ليبيا، وهي قمة صعبة جداً، ولن يكون أمامها المزيد من المناورة أو التلاعب بالمفردات في صياغة التوصيات والقرارات، فهنالك مأزق المفاوضات الفلسطينية- الصهيونية الذي يتعاظم يوماً بعد يوم، والذي وضع (الغطاء العربي) في مأزق أيضاً، جراء إعلان الكيان الصهيوني بناء وحدات استطيانية تقدر بالآلاف في القدس وحولها، ولا سيّما القدس الشرقية، التي من المقرر أن تكون عاصمة الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها، وهنالك ملفات أخرى ساخنة مثل الملف اليمني، وما سيستجد في الملف العراقي بعد الانتخابات، والملف الإيراني، والملف الصومالي والتدخل الأمريكي، والملفات الكثيرة بشأن الخلافات العربية- العربية، ناهيك عن الملفات العربية الداخلية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية . وقد تكون لهذه القمة أهميتها كونها تنعقد على الأرض الليبية، حيث سيرأسها الزعيم الليبي، صاحب المبادرات الجريئة وأحياناً الغريبة .

إن أمام هذه القمة فرصة الخروج بقرارات حاسمة، ولا بأس أن تخرج بقرار جريء جدا، يطالب الفلسطينيين بحزم لتحقيق المصالحة بين (جمهورية غزة وجمهورية الضفة)، ويتبع هذه المصالحة طرح مسألة التفاوض وما يتعلق بها مثل الدولة الفلسطينية ذات السيادة، أو حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، للاستفتاء الجماهيري، الذي سيمنح أي مفاوض فلسطيني شرعية كبيرة، تمكنه من استخدام نتائجها كمرجعية حاسمة: فالشعب الفلسطيني يقر بحق العودة، ويطالب بدولة ذات سيادة، وغير ذلك من الأمور الحساسة، وهو في ذلك، يستخدم السلاح نفسه الذي يستخدمه الكيان الصهيوني .

ولا يمكننا أن نتخيل، أن يخرج العرب من القمة، بقرارات فيها الكثير من التلاعب اللفظي، والقرارات المعدة مسبقاً، وقد سبق للزعيم الليبي أن أعلن توصيات إحدى القمم قبل انعقادها بأيام، مستهجناً كيف يجتمع القادة، طالما أن التوصيات معدّة مسبقاً، ولهذا، لا نتوقع أن تكون قرارات القمة العربية مثل سابقاتها .

ليجرب العرب مرة واحدة في تاريخهم اللجوء إلى الشعب، فهو الجدار الذي لا يمكن المساومة عليه أو اختراقه، وهو الموقف الأكثر صلابة في مواجهة الضغوطات الأمريكية والصهيونية، وهو الذي يمنحهم راحة الضمير والقوة، ويجب ألا يخافوا من تبعاته، فكل القرارات السابقة فشلت لأنها افتقدت للمرجعية الشعبية والقانونية، ويفشل العرب في التفاوض وفي إدارة الصراع لأنهم يذهبون إلى طاولة المفاوضات عزّلاً، وبلا ظهر يستندون إليه، وأمامهم فرصة الآن كي يسندوا ظهرهم إلى الشعب الفلسطيني على الأقل، وبدلاً من توفير الغطاء الرسمي، عليهم توفير الغطاء الشعبي، ولن يحدث هذا الغطاء فوضى من أي نوع، بل سيشكل مفاجأة وصدمة للغرب وأمريكا والعدو الصهيوني، الذين سيدركون أن صحوة ما بدأت تتشكل في الوطن العربي، الذي لم يعد يحتمل إبقاء الحال على ما هو عليه، بل إن إبقاء هذا الحال يشكل خطراً على الأنظمة ذاتها، ليس من قبل شعوبها ولكن من قبل تنظيمات وحركات أخرى تقف بالمرصاد، ومن قبل الأطراف المعادية .

إن أمام القمة العربية مساحة لممارسة تكتيك جديد تنصح به الفلسطينيين، الذين وفّرت لهم غطاء التفاوض، ولو كانت وفرت لهم غطاء آخر منذ سنوات، لما وصلوا إلى هذه الحال من التأزم والضياع .