يوسف الكويليت

لابن خلدون مقولة أن هناك قاعدة عامة بتبعية المغلوب للغالب، لكن إذا افترضنا أن التراث البشري مشترك بتداول الحضارات وتداخل الأجناس بالسلم أو الحرب وانتشار وتأثر اللغات والعادات ببعضها، فإنه لا يمكن طرح مفهوم الاستعمار الثقافي تحت المساءلة كوجهة نظر قابلة للتحليل والتعليق، ومراجعة لصطلح ساد فترة طويلة..

فالاستعمار السياسي والاقتصادي يبقيان حقيقة، لكن الثقافة، وإن تأثرت بقلب بعض مصطلحاتها والتغيير في قاموسها اللغوي، إلا أن هذا من طبيعتها المتمثلة في التأثر والتأثير المفضيين إلى تلاقح الثقافات، والتعاطي معها كمنتج إنساني.

فقد اعتمدت اللغة الإنجليزية والفرنسية والأسبانية كلغة أم للعديد من الدول مثل الهند ولكنها لم تستطع طمس تراثها وأديانها ومعابدها، بل لا تزال الطقوس تؤدى بلغاتها الأصلية مع سيادة الانجليزية في المعاملات الرسمية والمعاهد والمدارس والجامعات ومراكز البحث العلمي، ومع ذلك فأي ابتكار أو منتج أو نشاط ثقافي حتى لو كتب بالانجليزية فهو يبقى هندياً صميماً، ويتطابق ذلك مع الدول التي استبدلت لغاتها بغيرها وأبقت على خصوصية نشاطها، وتنامي ثقافاتها..

فإذا كانت الفلسفات والفنون، والهندسة والأدب، وكل ما يتعلق بعصر ما، هو ابتكار في حينه، فإنه جرى الأخذ بثقافات شعوب أخرى كعامل تحديث في بنية الدولة المتطورة، ونقلت عنها حضارات وثقافات جاءت بعدها لتحرث وتبني مشروعها الجديد من خلاصة ما أنجزته الشعوب التي سبقتها..

الآن والحضارة الراهنة باشتراطاتها غربية، غير أنها لا تملك هذا التحديد بالغرب وحده، فهناك دول أخرى قلدت وابتكرت وحافظت على تقاليدها وثقافتها، ولكنها ساهمت بتطوير ذاتها باستنساخ تلك المنجزات وحولتها إلى منتج يأخذ مثلاً اسم اليابان وكوريا والصين، وغيرها من الدول اللاتينية، وبلدان الاتحاد السوفيتي القديم..

زمن صراع الشرق مع الغرب أفرز مصطلح laquo;الاستعمار الثقافيraquo; وقد كان اتهاماً للغرب الذي قال الطرف المنافس إنه سرق وجيّر حضارات وثقافات الشعوب له، لكن! إذا أخذنا بهذا الرأي فهل تلام دول أنتجت كل شيء وأعلنت كشوفات علمية وفضائية أن تعطي هذه المنتجات صفتها ولغاتها وابتكار أسماء لها وهي أصبحت احتياجات ضرورية لشعوب لا تستطيع مجاراتها؟

إن سقوط الاتحاد السوفيتي كان تعارضاً بين الحرية والكبت، وإلا كان يملك كل المقومات لإنشاء إمبراطورية عظمى انهارت بسبب نظامها وقوة المنافس المقابل الذي جعل قوانينه قابلة لحضانة الابتكار في مناحي الحياة المختلفة، وأخذها كحضارة عالمية شاملة..

تطرح أسئلة دائمة، لماذا بعض الدول والشعوب استطاعت استيعاب الحضارة الراهنة وزادت بتطويرها من خلال إضافات كبيرة، وعجزت أخرى أن تحاكي هذا التطور، وما هي علاقة الموروث والبيئة والنظام والتقاليد بحالة الإعاقة وتفجير المواهب لدى شعوب تملك أسس تطورها؟..

عندما يتم طرح هذا السؤال ويُخص به أمتنا العربية، يتشعب الجواب ويتعقد، لأن جملة المعوقات تتصل ببنية النظام السياسي والاجتماعي والثقافي، وهنا يصعب فهم المشكلة ما لم نعترف بالقصور..