خالد الدخيل
إذا تواضعنا على أن المقالة في صحيفة سيارة هي نوع من التفكير وإجالة النظر بعجالة في قضية ما، فإن في هذا شيئا من التبرير لما قد يعتري هذه المقالة من قصور. أقول هذا لأني أدرك أن الموضوع الذي ينطوي عليه عنوان المقالة أكبر، وأكثر تشعبا من أن تحتويه، وتمنحه ما يستحقه مقالة مثل هذه. ولذلك لابد من أن تكون هناك أكثر من مقالة عن الموضوع نفسه.
ما هو المقصود بمثقف الدولة السعودية؟ وهل يختلف هذا عن مصطلح المثقف السعودي؟ ربما قيل إن مفهوم المثقف يتصف بصفة وطنية أشمل من ذلك المرتبط بالدولة. وهذا غير دقيق. لأن الدولة هي، أو يفترض أن تكون الرمز الأول للوطنية.مرة أخرى، ما هو المقصود بمثقف الدولة السعودية؟ قبل الإجابة لابد من استئناف مختصر للتمييز الذي أشرنا إليه في مقالة الأسبوع الماضي، وهو التمييز بين الدولة والنظام السياسي، والذي تبعا له ميزنا بين مثقف الدولة ومثقف النظام، أو السلطة السياسية. كيف يمكن تجسيد هذه المعادلة في العالم العربي؟ وأين تقع السعودية منها؟ في ظني أن نموذج النظام السياسي في العالم، حيث تتراجع الدولة إلى أدنى درجات ضعفها، موجود في ليبيا وسوريا، وتونس، وقبل ذلك في العراق قبل الاحتلال الأميركي. بعد الاحتلال دخل العراق مرحلة انتقالية تتسم بالعنف وعدم الاستقرار. أما النموذج الذي تقترب فيه الدولة من فرض وجودها، وحضورها، ومن فرض نوع من الرقابة على فكرة النظام السياسي فموجود في الكويت، والمغرب، ومصر، والأردن، والسعودية، ثم بقية دول الخليج العربي. في هذه الدول لا تختفي فكرة النظام السياسي تماما، لكن من الواضح أنها لا تستأثر بالمشهد كله، كما هو الحال في النموذج السابق. ولعل الكويت، وهذه مفارقة، من أكثر البلدان العربية التي تقدم أقرب النماذج لحضور الدولة، وللضعف النسبي للنظام السياسي في مقابلها.
بناءً على هذه المعادلة للنظام السياسي -الدولة في العالم العربي، وبناءً على التمييز المشار إليه، يمكن القول بأن هناك صيغا متعددة للمثقف، يتداخل فيها أحيانا مثقف السلطة، أو النظام السياسي، مع مثقف الدولة. عندما نأتي إلى الحالة السعودية، نجد أن صيغة المثقف أخذت، منذ خمسينيات القرن الماضي، تتعدد بعد أن كانت محصورة في رجل الدين. وتبعاً لهذه التعددية مرت العلاقة بين الدولة السعودية والمثقف بمراحل مختلفة. ليس هنا مجال لاستعراض هذه المراحل، لكن عندما نأخذ المرحلة الأخيرة التي تبدأ لحظة الغزو العراقي للكويت في صيف 1990 نلاحظ التالي: بقي رجل الدين هو المثقف الأول للدولة. قد يبدو للبعض أن رجل الدين هو الأقرب للتعبير عن رؤية الدولة للعالم، وللتاريخ والإنسان، وبالتالي هو الأقرب لأن يكون مثقف الدولة بامتياز. يبدو هذا التوصيف للوهلة الأولى منطقياً، ويقترب من الصحة، لكن بعد التدقيق يتضح أنه يفتقد للدقة بشكل واضح، خاصة في هذه المرحلة. ينطبق التوصيف بدقة على الدولتين الأولى والثانية، لكنه يميل إلى الارتباك والمبالغة في حالة الدولة السعودية الثالثة، خاصة بعد عقد السبعينيات من القرن الماضي.
الحاضن الأول لفكرة الدولة السعودية كانت الحركة الوهابية التي ظهرت في القرن 12هـ/18م، وهي حركة دينية سياسية. لذلك نشأت الدولة أصلا على أساس تحالف بين الفقيه والأمير، تحالف كانت الشريعة هي العقد الذي يستند إليه. أضف إلى ذلك أن التعليم الديني في الدولتين الأولى والثانية كان التعليم الوحيد حينها المتوفر للناس. وبالتالي كان رجل الدين، وبشكل خاص الفقيه، هو الصيغة الوحيدة للمثقف. وكان من الطبيعي أن جعلت هذه الخلفية التاريخية من الفقيه مثقف الدولة الأول والأخير في تلك المرحلة. أصبح الفقيه بناء على ذلك يعبر عن روح الدولة، وعن رؤيتها، حتى وإن لم تكن هذه الدولة دينية، كما يظن البعض. وللتعرف على المكانة التي كان يحظى بها الفقيه من رجل الدولة يكفي أن تقرأ في تاريخ المرحلتين الأولى والثانية لهذه الدولة، بل وأثناء إعادة تأسيسها في مرحلتها الثالثة، لتجد مدى هيمنة النبرة الدينية على خطابها. لكن لعل ما حصل من تجاذبات فكرية دينية بين فقهاء الدولة، وبين هؤلاء وبعض رجال الدولة من ناحية ثانية، أثناء الحرب الأهلية التي انتهت بأفول المرحلة الثانية للدولة، يعكس ليس فقط مدى هيمنة الخطاب الديني على المشهد، بل مدى الثقة والاحترام اللذين كان يحظى بهما الفقيه داخل المجتمع، وتحديداً من رجل الدولة حتى في أحلك اللحظات. حيث تذكر المصادر أنه أثناء ذلك حصل خلاف بين الشيخ حمد بن عتيق، أحد أبرز فقهاء الدولة، وبين الإمام سعود بن فيصل، الطرف الآخر في الصراع، الذي كان يقود تمرداً على أخيه عبدالله بن فيصل، إمام الدولة. في هذا السياق كتب الشيخ ابن عتيق رسالة طويلة وقاسية رداً على خطاب وصله من الإمام سعود. يستهل الشيخ رسالته هكذا: quot;وصل إليّ خطك وتأملته، وكثرت فيه الظنون حتى أني ظننت أن الذي أملاه غيرك، لأن فيه أمورا ما تصدر من عاقل، وفيه أكاذيب ما تليق بمثلك...quot; (الدرر السنية، ج9، ص47). وهذه البداية بحد ذاتها فيها من الجرأة الممزوجة بالثقة ما يعتبر في التاريخ الإسلامي من الأمور التي لا تمثل عادة متبعة في التخاطب بين الفقيه ورجل الدولة. يأخذ الشيخ بعد ذلك في تفنيد ما اعتبره ادعاءات لا أساس لها من قبل الإمام سعود، وبلغة واضحة ومباشرة، لغة دينية تحض على الوحدة، والابتعاد عن الشقاق. الشاهد هنا أن موقف الشيخ، ورغم ما كان يتسم به من حدة، إلا أنه لم يؤثر في مكانته، ولم يؤد إلى اهتزاز الثقة فيه، دع عنك أنه لم يمسه ضر من أحد، ولا حتى من الذي وجه إليه الخطاب نفسه، رغم أن ما حصل كان أثناء مرحلة مضطربة انفلت فيها زمام الأمن.
الشاهد الآخر، أن الفقيه كما أشرت كان تقريباً الوحيد المعبر فكريا عن الدولة إلى جانب السياسي. ماذا عن الفئات الأخرى التي تنتمي بشكل أو بآخر إلى فئة مثقفي المجتمع، مثل الشعراء الشعبيين، والرواة، وغيرهم؟ هذا سؤال نؤجله لمناسبة أخرى.
في الدولة السعودية الثالثة، وتحديداً بعد النصف الثاني من القرن الماضي، أخذت صورة المشهد تتغير، ومعها أخذت صورة المثقف تتغير أيضا. بقي رجل الدين هو الأبرز، والأكثر حظوة. لكن صيغة أخرى للمثقف بدأت في التبلور، وأخذت تحتل مكانها في المشهد إلى جانب الفقيه، أو رجل الدين عامة. ولعله من أبلغ المؤشرات على ذلك الحملة الشرسة التي بدأ يتعرض لها مثقفو التيارات العصرية والحديثة على أيدي من يمثلون التيار أو الفكر الديني، أو مثقفي الدولة الأوائل قبل أكثر من ثلاثة عقود. ربما يرى البعض أن رجل الدين لا يزال هو الأقرب للتعبير عن الدولة، وعن رؤيتها للعالم وللتاريخ والإنسان. وفي هذا شيء من الصحة، لكنه قول يعوزه الكثير من الدقة، وفيه كثير من المغالطة. وذلك لسبب بسيط، هو أن الدولة التي لا تتسع إلا للفقيه تجاوزها التاريخ. تغيرت الدولة، وتطورت مؤسساتها، وعلاقاتها، ورؤيتها أيضا. على العكس، رؤية الفقيه هي التي لم تعد تتسع لرؤية الدولة، ولسياساتها، ومصالحها. وهذا مؤشر واضح على أن تغيرا حصل ليس فقط في صيغة المثقف، بل ولعلاقة هذا المثقف بالدولة. ما الذي حصل؟ وأين يقع المثقف العصري الحديث من الدولة في مرحلتها المعاصرة؟ لاحظ أننا نتكلم هنا عن الدولة، وليس عن النظام السياسي.
التعليقات