منى فياض

قبل اطلاعي على كتاب ندى عبدالصمد laquo;وادي أبو جميل، قصص عن يهود لبنانraquo; عن دار النهار 2009، كنت أفكر من حين لآخر برفيقة في النضال اليساري، يهودية لبنانية تزوجت في بداية السبعينيات من مناضل يساري مسلم لبناني (طالما شكّك البعض بوطنيته بسبب هذا الزواج)، وعاشت معه الى أن انفصلا وغادرت الى فرنسا في خضم الحرب الأهلية وبعد احتلال الجنوب، لتلتحق بأفراد عائلتها الذين نزحوا، كما معظم اليهود، بعد حرب يونيو (حزيران) 1967.

كنت أفكر فيها بمزيج من الحزن والأسف. لم تكن صديقتي، لكن ذلك لم يمنعني من التأسف على اضطرارها مغادرة بلدها وعدم القدرة على العودة اليه فيما لو أرادت، أو الحذر من ذلك. وعندما قرأت كتاب laquo;وادي أبو جميلraquo; فكّرت في أننا مقصّرون بحق يهود لبنان (وهم الموجودون هنا منذ آلاف السنين، كما قال أحدهم في مقابلة معه) عبر تغاضينا عما حصل معهم، أو تخوفنا من الاشارة الى وضعهم، نظراً لكل المسلّمات والآراء المسبقة التي تعمّ بلادنا بشكل عام.

نويت الكتابة في الموضوع، وفتحت الإنترنت، وبدأت البحث، وانفتح أمامي عالم واسع، وجرفني البحث عن يهود لبنان، ووجدتني أكتشف وأتعرف إلى فئة من أبناء بلدي ما كان يجب علينا إهمالها والسكوت عن حقوقها بهذا الشكل إذا زعمنا لأنفسنا الديمقراطية وقبول الآخر.

تستهل عبدالصمد كتابها بأن laquo;الطائفة اليهودية اندثرت في لبنان من دون أن يعني ذلك أن يهود لبنان تبرؤوا من انتمائهم الى وطنهم، أو الاغلبية على الأقل. لم يبق من الطائفة اليهودية سوى بضع عشرات. الجامع بين قصصهم هو أنهم غادروا بسرية تامة، وانقطعت بعد ذلك أخبارهمraquo;.

تتأرجح الأرقام وتتضارب حول عدد الموجودين حالياً، وحول عددهم في أوج ازدهار وجودهم في العام 1948، عام احتلال إسرائيل لفلسطين وبداية مراحل عنف، غير مسبوق، عمّت المنطقة، وزادت في تراجعها وانحدارها. هناك من يقدّر عددهم بأقل من 100 شخص حالياً، وهناك من يجعله 300، مقارنة بعدد 22 ألفاً في العام 1948. وبحسب بعض المراجع انحصر تعدادهم بـ 3000 شخص بعد حرب 1967 عام رحيلهم الكبير، لما تسببت به تلك الحرب من جروح عميقة وشروخ يصعب ردمها تجاه الدولة الغاصبة المحتلة، انصبّت كراهية ورفضاً على اليهود العرب أينما وجدوا. لكن بعد السنة الأولى من الحرب الأهلية العتيدة في العام 1976 تكثفت هجرة اليهود من لبنان للأسباب عينها التي دفعت بأبناء باقي الطوائف إلى الهجرة، لم يتبق إلا 500 يهودي لبناني.

ويكيبيديا تشير الى وجود 1500 يهودي حاليا، لكنهم غيّروا ديانتهم. وهؤلاء، إما أنهم يتكتمون على انتمائهم للدين اليهودي، ويفضلون عدم ذكر أسمائهم عند إجراء مقابلات معهم، وإما غيّروا ديانتهم. وتأكدت من ذلك مؤخراً في معرض نقاش عمل فني، إذ ذكرت لي صديقتي أن فلانا صاحب هذا العمل هو يهودي. كيف عرفت؟ قلت لها. أجابت بأن والدتها تعرف أقاربه من مكان سكنه الذي ذكره لها. لكنه نفى معرفته بهؤلاء الأقارب الذين سألته عنهم. كما أن اسم عائلته محرّف، وهو يقدم نفسه على أنه مسيحي أرثوذكسي.

إن صحّت هذه المعلومات، فإنه يجدر بنا الخجل منها. فكم هو تعس هذا الوضع؟ كأننا في زمن محاكم التفتيش أن يضطر كائن من كان الى تغيير دينه وانتمائه الى عائلته من أجل الحفاظ على وطنه؟

الطائفة اليهودية واحدة من ثماني عشرة طائفة تكوّن المجتمع اللبناني، 6 طوائف منها كبيرة، والاثنتا عشرة الباقية من طوائف صغيرة تسمى laquo;طوائف الأقلياتraquo;. كانت تسمى رسميا بالطائفة الإسرائيلية، لكن ونظراً لحساسية التسمية، قررت وزارة الداخلية اللبنانية تغيير الاسم إلى اليهودية كدين سماوي مقبول من مختلف الأديان والطوائف الأخرى.

ينقل أحد المواقع الإلكترونية أن لوائح الشطب التي جرت على أساسها الانتخابات النيابية للعام 2009 ضمت 5390 يهودياً لبنانياً، 5 منهم لا غير، انتخبوا في دائرة بيروت الأولى لمصلحة قوى 14 آذار.. أما البقية الباقية الموزّعة ما بين طرابلس والشوف ودير القمر وعاليه فانتخبت في صندوق الأقليات، فاستحال حصر عددها الذي من المؤكد لم يتخط أصابع اليد. يهود لبنان يندرجون على لوائح الشطب في خانة طائفة مسيحي والمذهب إسرائيلي.. إنهم يختبؤون بين المسيحيين.

في أواسط أغسطس (آب) الماضي، بدأ تناقل خبر laquo;عن وجود حركة إعادة إعمار نشطة لكنيس ماغن إبراهام في قلب مدينة بيروت بالقرب من السراي الحكومية، حيث ينشغل العمال بإعادة موقع العبادة الذي يبلغ عمره ثمانين سنة. وانطلقت أخيرا ورشة ترميم كنيس ماغن إبراهام في بيروت، أحد آخر رموز الوجود اليهودي في لبنانraquo;. وكان هذا الكنيس قد دمّره الطيران الإسرائيلي خلال الغزو الإسرائيلي لبيروت العام 1982. ومنذ ذلك الوقت، أصبح حي اليهود في laquo;وادي أبو جميلraquo; خالياً وكنيسه مهدّماً إلى أن بدأت أعمال ترميمه التي لم يعترض عليها أي من الأحزاب السياسية، بما فيهم

حزب الله.

ما سبب هذا الاهتمام المفاجئ برمز ديني يهودي؟ ربما هو حصول رقي في الوعي عند اللبنانيين، وفي تطبيق مبدأ التسامح الذي يكثر التغني به، وربما هو مؤشر إلى استعادة الأمل في أوساط الطائفة اليهودية في لبنان. وينقل بعض المواقع أن بعض أفراد هذه الطائفة يفكر ليس بعودة اليهود الذين غادروا الدولة فقط، بل وبعودة التمثيل اليهودي في البرلمان أيضاً. laquo;إنها مجرد بداية، ولكن يبدو أن السلطات اللبنانية تعبّر عن اهتمام متجدد بجاليتناraquo;، يقول ديفيد، وهو أستاذ لغة فرنسية في إحدى المدارس الخاصة، والبالغ من العمر أربعين سنة، وقد فضّل عدم ذكر اسم عائلته.

تجدر الإشارة إلى أنه عندما اجتاحت إسرائيل لبنان ودخلت العاصمة بيروت صيف العام 1982، عرضت الحكومة الإسرائيلية الهوية الإسرائيلية على من تبقّى من اليهود اللبنانيين. وبحسب تقرير صدر عن الصحيفة اليومية البريطانية ذي تايمز The Times في أغسطس (آب) من ذلك العام، لم يقبل أي يهودي لبناني بهذا العرض.

من ناحيتها، أكّدت ليزا ذلك بقولها laquo;عُرضت عليّ الهوية الإسرائيلية، عندما أتى آرييل شارون إلى بيروت. ولم أكن الوحيدة التي رفضتها آنذاك. لن أكون إسرائيلية أبداًraquo;. في الواقع، لم تكن الصهيونية جذابة بالنسبة إلى أغلبية اليهود العرب الذين هربوا إلى إسرائيل، لكن لم يكن هناك أي بلد آخر مستعدّ لاستقبالهم كلاجئين بعدما أثاروا حذر وريبة مواطنيهم.

إذاً، أين اليهود اللّبنانيون اليوم؟ لقد هرب معظمهم إلى باريس ومونتريال، وأصبحوا مواطنين في البلدان التي استقبلتهم. واستقرّ أقلّ من 200 شخص منهم في إسرائيل، وهذا واقع يعكس قلّة اهتمام أغلبية اليهود اللّبنانيين بالصهيونية وقتذاك.