محمود المشهداني

هذا حديث.. آن أوانه وحان بيانه اليوم وليس غدا، فلم يكن له موضع بالأمس بعد أن شغلت الجميع شؤون وشجون مقدرات العراق السياسية والاجتماعية التي وقعت زلازل سقط في حفرها فقراء العراق قبل الكل ومن دون الكل، وهو حديث له أسبابه السياسية وأسبابه الاجتماعية وأسبابه المؤدية إليه. وهذا الحديث هو أفكار وخواطر في السياسة العراقية التي أجدها في اجتهادي السياسي والاجتماعي سياسة لم تعبد بالنوايا الطيبة، بل عبدت بخفايا قد نحتاج إلى عقود وعقود لإدراك كنهها.. ولكن فقراء العراق لن يكونوا في العقود القادمة جالسين في أرشيف المحفوظات الوثائقية لمحفوظات العراق والدول المؤثرة في العراق ليعرفوا من باعهم واشترى بفقرهم بيوته وشركاته بين دبي ولندن وباريس وسويسرا. إن فقراء العراق وهم يذبحون يوميا هم عماد الفشل السياسي، لا خاسرو الانتخابات ورابحوها. ومن أجل ذلك كان هذا الحديث أفكارا وخواطر ستتلوها أفكار وخواطر أخرى حتى نضع اليد على الجرح النازف الذي ننزف به جميعا.

التفجيرات الأخيرة وليست الآخرة التي ضربت بغداد متواصلة في دمويتها واستهدافها للفقراء من العراقيين وليس سواهم بالمستهدف كانت مجموعة من الدلائل على فشل طال واستطال في الدمج بين ملفات الأمن المفقود والصراع السياسي الموجود، وهو فشل سبقه نجاح فخلل أريد له أن يتحمله قوم آخرون، وكان يجب أن يتحمله أولئك الذين أنستهم السياسة الأمن. ولقد كانت الاستراتيجية الأمنية العراقية بين مؤسسات رئاسة الوزراء، والداخلية، والدفاع، والمخابرات الوطنية، استراتيجية نجحت حينا وفشلت أحيانا أخرى، ولا أقول إن هذه المؤسسات كانت سبب الفشل والنجاح، بل إن الفشل والنجاح له سياسيون وأمنيون هنا وهناك، كما أن هنالك قوى احتلال وقوى ليس لها اسم الاحتلال ولكنها تحتل من الشرق والغرب والشمال والجنوب، لا تخفى خوافيها ويعرفها الناس سواء كانوا في داخل العراق أو خارجه.

(وأشهد للتاريخ أن فضائيات العنف الموجه العربية والعراقية كان لها تدخل في ذلك عن طريق التغطيات المتحيزة قبل وفي أثناء وبعد الانتخابات، وهي التي زعمت أنها تحلل وتعرف مزاج الخاسرين بهيئاتها الشعبية المزعومة، وكانت هذه الفضائيات وما زالت هي.. هي عين الفضائيات التي استهدفت فقراء العراق بتقديمهم للمشاهد الذي تحرص على أن يتابعها وهم في أسوأ الحالات، وضحكت منهم وعليهم وفيهم وخلالهم، وكانت باسم فقراء العراق تعيد الحرب جذعة كلما خمدت، وكنا ولا نزال نقول لها ولأصحابها ومموليها ورعاتها دعوها فإنها منتنة، ولكنّ أحدا لم يستجب من قبل ومن بعد).

إن التفجيرات المتوالية التي أصابت العراقيين في مقتل ففجرت بيوتهم فوق رؤوسهم، واستهدفوا وهم يمرون عرضا أو قصدا بجانب أبواب السفارات، وقتلوا وهم يتناولون الطعام، هي تفجيرات أسميها (الولوغ في دماء الفقراء)، وهي جزء من حرب طويلة لم تعد سرّية بين جهات جمعتها صفات استهداف العراقيين في مآمنهم ووسط فقرهم وبطالتهم وجروحهم وانكساراتهم وخوفهم الذي زرعه أمراء الفتنة وأمراء الطوائف وأمراء الصراخ باسم العراق خلف مكاتبهم الغالية التي تدير حواراتهم الفاشلة باسم فقراء العراق، وكل منهم قارون آخر.

لقد رضي العراقيون سوادهم الأعظم بالفقر الآمن وبالخسارة بجانب الأمن والأمان في السرب بعد أن يئسوا من عصر حروب العراقيين أن ينتهي أو أن يحسن سياسيوهم صنعا أو أن يغادر إداريوهم الفساد الذي جعل العراق دولة فاسدة فاشلة في مقاييس الشفافية الدولية لسنين متوالية متتالية منذ 2003. (وأشهد للتاريخ أن نكبة العراقيين في ضياع طبقتهم الوسطى وتحولاتهم بين الأشد غنى والأشد فقرا داخل وخارج العراق ليست إلا نكبة تضاف إلى نكبة الاحتلال والفساد السياسي والخلل الأمني الداخلي ومحاولات مافيات ما بعد 2003 أن تكون البديل للدولة والمجتمع على حد سواء في ذلك).

لقد تاجر كثيرون بفقراء العراق، فتاجر بهم المحتل ومدعي الوطنية ومرشح الانتخابات والإعلامي الذي يدخل ببدلته الفاخرة أحياء الطين ليقول لمشاهديه هذا العراق، والجار بالقربى والجار الجنب، وحتى ابن السبيل تاجر بالعراق وفقرائه.

وكانت تلك تجارة بائرة، فالمحتل تاجر بالتحرير، ومدعي الوطنية تاجر بتوزيع خيرات العراق على فقرائه وهو يعلم أن ذلك محال في ضوء ما جرى ويجري وسيجري، ومرشح الانتخابات تاجر بفقراء العراق بملحفة ومروحة وبطاقة نقال وبضع أوراق خضراء لمرة واحدة كل أربع سنوات، والإعلامي تاجر في فضائيته العربية والعراقية بصورة فقراء أهله وهم كثر ليزيد مشاهديه وتزيد إعلاناته في رمضان وغير رمضان بين وخلال مسلسلات تقدم العراقيين وهم في الدرك الأسفل، والجار بالقربى والجار بالجنب رجوا من متاجرتهم بفقراء العراق داخل العراق وخارجه تجارة لن تبور بين تجنيد فقير ليخدمهم أو إذلال فقير على أبواب حدوهم أو دعم مليشيا هنا وفرقة موت هناك أو حزب عقيم المولد وعقيم المسار.. للبلوغ.. وأظنه سيكون عقيم شيخوخته وموته.. وابن السبيل المار عرضا بفقراء العراق حسب أن سيلحقه شيء من الخير الممنوع أهله المسموح لغير أهله، فضاع الناس بين غد وأمس. وضاع فقراء العراق وهم كثر وكثر جدا بين بطالة وضياع وحبس على الشبهة ووقوف على موائد اللئام الذين ينصبونها بحقوق فقراء العراق وهم في بدلات الأرماني وخلفهم رجال في السواد يحمونهم من فقراء العراق. والذين هجروا من فقراء العراق، والذين زادوا فقرا من فقراء العراق، والذين قتلوا أو سجنوا أو فقدوا من فقراء العراق، واللواتي ترملن، والذين تيتموا، والذين سكنوا المزابل وصفائح الصفائح، والذين أجبروا على الانحناء خوفا ورهبا وطمعا ورغبا لمن كان يخدمهم يوما ما، والذين تقطعت بهم السبل فغرقوا في بحار الهجرة أو أغرقهم سماسرة حلم التهريب، والذين قتلتهم تنانين الفساد لأنهم فقراء شرفاء، كل أولئك سيكون الجميع عنهم مسؤولا، السياسي والعسكري والاقتصادي والإعلامي والمحتل والجار بالقربى والجار الجنب.. إن فقراء العراق وهم الذين يعيشون ولا يدري أحد كيف يعيشون، لا يسألون الناس إلحافا، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، هم الأهل كل الأهل في الشمال والوسط والجنوب وداخل العراق وفي الدول التي هاجر إليها العراقيون في هرج الفتنة الكبرى، وهم الذين لا يعرفهم السياسي ولا العسكري ولا الاقتصادي ولا الإعلامي، ثم يزعم هؤلاء حين يزعمون أنهم يعرفون مزاج الناس، وإذا كان كلنا راعيا وكلنا مسؤولا عن رعيته أمام الله جل جلاله فإن المصيبة أعظم من أن توصف. فقد بتنا جميعا شبعى وأهلنا في الجوع، ولم نؤثر على أنفسنا في الخصاصة وغير الخصاصة، فكان فقراء العراق الخاسر الأكبر من قبل ومن بعد. إن السياسة العراقية بعد انتخابات 2010 إدارة وقيادة بحاجة إلى منظومة إصلاح سياسي وعسكري واقتصادي وثقافي ووطني في الاستحقاق الوطني نفسه، لئلا نواجه ثورة الجياع بعد طول صبر على حكومات متعاقبة لم يترك الأول للآخر فيها ومنها إلا أن يقول: انجُ سعد فقد هلك سعيد. إن هذه السياسة العراقية بين الفوز والخسارة بعد الانتخابات الأخيرة لا يجب أن تمارس لأجل عضوية برلمان أو رئاسة حكومة أو منصب سيادي أو غير سيادي، فالتاريخ العراقي والسياسة العراقية ستسجل ضياع فقراء العراق بين يوم كريهة وسداد ثغر لم يسد.

ولات حين مناص..