الحسين الزاوي
لاشك في أن الخلفيات التي تدفع الإدارة ldquo;الإسرائيليةrdquo; إلى الحديث عن المفاوضات هي الخلفيات نفسها التي جعلتها تنخرط في مسلسل التسوية العقيم الذي دشنته اتفاقيات أوسلو، وقد بدا ذلك واضحا من خلال ردود الأفعال المتشنجة التي صدرت، ولا زالت تصدر تباعاً عن الكثير من القيادات ldquo;الإسرائيليةrdquo; وعن قسم كبير من النخب اليهودية في الولايات المتحدة، والتي تؤكد أنها ترفض أن يُنظر إلى الأمن القومي الأمريكي والغربي عموماً، على أنه وثيق الصلة بما يحدث من تجاوزات في الأراضي الفلسطينية .الأمر الذي يجعل الكيان الصهيوني يبدو مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن حالات الاستقرار التي شاهدتها وتشهدها مناطق متفرقة من العالم؛ ldquo;فالإسرائيليونrdquo; يريدون إقناع العالم أن ما يسمى بالتطرف الإسلامي المنتشر في كل هذه المناطق التي مازالت مسرحاً لتوترات وأزمات كبرى، يمثل ثقافة متأصلة في وعي ووجدان الشعوب العربية والإسلامية، وبالتالي فإن العيب ليس في السياسة ldquo;الإسرائيليةrdquo; ldquo;الوديعةrdquo;، وإنما الخطر كل الخطر يأتي من ثقافة التعصب المنتشرة بين مجتمعات هذه المنطقة الملتهبة .
وعليه فإنه ليس هناك ما هو أكثر جلاء ووضوحاً من أن هناك رغبة ldquo;إسرائيليةrdquo; أكيدة في امتصاص التبرم الخجول للدول الغربية من سياستها الاستيطانية، وهو التبرم أو الامتعاض الذي يمكن أن يُدرج في خانة عتاب الأحبة والخلان من منطلق أنه لا يمكن أن يفسد للود قضية ؛ وما التباكي ldquo;الإسرائيليrdquo; على تعثر مسلسل المفاوضات إلا دليل على رغبتها في إحراج خصومها وجيرانها العرب ودفعهم إلى التصادم بشكل أكثر حدة مع الرأي العام الرافض لمسلسل جديد من المهازل التي تتيح ldquo;لإسرائيلrdquo; أن تعيد استثمار نفوذها داخل أوساط الرأي العام الغربي بوصفها دولة مسالمة تعيش في محيط يناصبها العداء وينشر ضدها ثقافة العنف والكراهية .
والحقيقة أن جزءاً كبيراً من الضغوط المحتشمة الممارسة على ldquo;إسرائيلrdquo; يمكن فهمها ومن ثم تفسيرها، من منطلق أن كل الدول التي اعتمدت على دعم النخب اليهودية في العالم بدأت تفقد موقعها الريادي في العالم بدءاً من الولايات المتحدة وفرنسا، ووصولاً إلى دول العالم الثالث التي أرادت أن تراهن على اللوبي اليهودي العالمي من أجل تحسين مواقعها الجيوسياسية، ومن ثمة فإن الدول التي أصبحت تحدد وتوجِّه السياسات الاقتصادية والاستراتيجية الحاسمة في المشهد الدولي الراهن، لا تقع ضمن دائرة النفوذ اليهودي العالمي، وذلك بالتحديد ما يقلق قادة تل أبيب ويصيب أحلامهم وتطلعاتهم المتهافتة في مقتل . ويمكن القول إن ldquo;إسرائيلrdquo; تريد أن تتفاوض بكثير من الحماسة والعنفوان، لا لأنها تملك رغبة حقيقية في السلام، ولكنها تريد أن تتلهّى بالمفاوضات وتُلهي من ثم كل خصومها بمسلسل جديد من اللقاءات الإعلامية المثيرة حتى لا تضطر إلى تقديم كل شيء دفعة واحدة، وتأمل بالتالي أن لا تُقْدِم على تقديم أي تنازل حقيقي أو جوهري في صورة ما إذا تطورت الأحداث الدولية في الاتجاه الذي تشتهيه . ذلك أن تجار السياسة في تل أبيب يعلمون جيدا أن الفلسطينيين قدموا كل التنازلات الممكنة حينما قبلوا بتأسيس دولة في حدود الجغرافيا التي رسمتها حرب ،67 لذلك فإن الصهاينة يسعون حالياً إلى قضم مزيد من أراضي الضفة حتى لا يضطروا إلى مقايضة الفلسطينيين بجزء من الأراضي التي حصلوا عليها بموجب قرار التقسيم سنة 1948 .
ويؤكد هذا السيناريو أن ساسة ldquo;إسرائيلrdquo; يتبعون أسلوب وتقنيات محترفي السرقة الذين يفاوضون ضحاياهم على ممتلكاتهم وكأنها حق مكتسب بالنسبة لهم ويتوجب على هؤلاء الضحايا أن يدفعوا ثمناً باهظاً للحصول على ممتلكاتهم المسلوبة ؛ كما أن وضعية المفاوض ldquo;الإسرائيليrdquo; تشبه أيضا، وإلى حد بعيد، وضعية السارق لأنه سيظل مستفيدا سواء تحصل على التعويض الذي لا يستحقه، أو احتفظ بملكية مسروقات لا يمكنه أن يثبت ملكيته لها .
من الواضح إذاً أن ldquo;إسرائيلrdquo; لا تريد سلاماً حقيقياً مع محيطها العربي ولكنها تصر على المفاوضات، لأنها لا تريد أن تشرف إشرافاً إدارياً وعسكرياً كاملاً على الأراضي الفلسطينية لأن ذلك سيستنزف قدراتها ويدخلها في أتون مواجهة مفتوحة ومباشرة مع كل مكونات الشعب الفلسطيني ؛ بل تريد إضفاء طابع الديمومة على المؤقت حتى لا تلجأ إلى ممارسة احتلال مباشر مُكلف، وحتى لا تضطر أيضا إلى الموافقة على إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة .وبالتالي فإن المفاوضات المقبلة يُنتظر منها أن تحقق للقادة ldquo;الإسرائيليينrdquo; جزءاً ولو بسيطاً مما حققته مفاوضات حقبة أسلو من مكاسب سياسية، وهي المفاوضات التي اتضح للجميع أنها مثلت أكبر أكذوبة سياسية في النصف الثاني من القرن الماضي .
وإذا كانت الأكذوبة الجديدة لن تحقق ما حققته الأولى، إلا أنها ستسهم على الأقل في تخفيف الضغط وإزالة عتب الأحبة والأصدقاء في انتظار مجيء عشاق جدد سيدشنون من دون شك للحظات ومحطات جديدة يتم التحضير لها مع موعد الاستحقاقات الانتخابية المقبلة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ؛ وما يزيد من سحر وجاذبية هذه الأكذوبة هو أن الطرف الصهيوني ما زال يراهن بشكل كبير على تلاشي وتراجع مشاريع المقاومة والممانعة بالمنطقة العربية . فالأيام المقبلة، كما يطمح الصهاينة، ستكون حُبلى بالتناقضات الاجتماعية والاقتصادية التي يُمكنها أن تجعل من القضية الفلسطينية قضية هامشية لكل الشعوب العربية والإسلامية،لتدخل مشاريع التحرر العربي في سبات قد لا تستيقظ منه أبداً .
التعليقات