علي الغفلي
تدرك دول الخليج العربية أنها تواجه تحدياً مصدره الضفة المقابلة، حيث تربض دولة كبيرة، يمنحها موقعها صفة الجوار الجغرافي، وتحكم توجهاتها عوامل التاريخ، البعيدة منها والقريبة، وتغذي سياساتها طموحات صعود القوة، وتهدف مآربها إلى حيازة زمام النفوذ الإقليمي . تعتقد إيران أنها تمتلك الحق في تشكيل تصورات جوهرية تتعلق بالخليج العربي، تطال اطلاق الإدعاءات المفتراة بشأن جذور الانتماء التاريخي لأقاليم الدول الخليجية، وتوسيع مجال النفوذ الذي تمنحه طهران لنفسها لممارسة قوتها، وصياغة مفهوم أمن الخليج بما يتوافق مع أهدافها الذاتية، وتحديد الجهة المسؤولة عن تحقيق هذا الأمن واقتصارها في إطار فلسفة نظامها الحاكم، كل ذلك في معزل عن الأخذ في الاعتبار منطلقات ومصالح جاراتها الخليجيات . ولا يقتصر الأمر على انفراد إيران بصنع التصورات، بل يتعدى إلى ارتكاب الممارسات العدائية أيضاً، بدءاً من التمسك باحتلال جزر الإمارات الثلاث، والتهديد بتوجيه إمكانياتها العسكرية إلى الانتقام من دول الخليج العربية بغرض المساومة مع الدول الغربية في شأن كيفية معالجة ملفها النووي، والاجتهاد في تصعيد النهج العسكري من خلال إطلاق المناورة العسكرية تلو الآخرى، وتحريك أدوات النفوذ المدمر في أكثر من موقع توتر في المنطقة العربية، ونشر شبكات التجسس وخلايا التخريب التي تعمل لصالحها في دول الخليج .
إن إيران متورطة في تبني العديد من الأفكار السلبية في مشاريع القوة المخيفة، وهي تدعم هذه الأفكار بالتورط في الكثير من ممارسات النفوذ المرفوضة . حين تقترن أفكار طهران التوسعية مع نشاطاتها العدائية، وحين تتوافق هذه الأفكار المقروءة مع السلوكيات المنظورة، فإنه ليس أمام دول الخليج العربية بد من الاعتقاد أنها أمام تحدٍ إقليمي حقيقي لا سبيل إلى تجاهله أو التهاون معه . لقد كان إدراك دول الخليح العربية بالخطر الإيراني الكامن مبكراً، وتعود الاستجابة له إلى ثلاثين عاماً مضت، حين قرر العراق الدخول في مواجهة عسكرية مع إيران في العام ،1980 وعندما قررت ست دول تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية في العام التالي . أخفق العراق في اجتثاث التحدي الإيراني، وفي واقع الأمر لم يكن من المتصور أن يتمكن العراق بمفرده من تحقيق ذلك .
وتهاون مجلس التعاون في إنجاز مهمة مواجهة نمو القوة الإيرانية، وهو أمر مؤسف ولكنه متوقع في ظل قصور مشروع التكامل الخليجي في الجانب التطبيقي من عمل المجلس . لقد فات الأوان بالنسبة لما يمكن أن يفعله العراق من أجل احتواء التحدي الأمني الذي تشكله سياسات طهران تجاه دول المنطقة، بعد أن أصبح هذا القطر العربي مجرد منطقة نفوذ أخرى في ساحة القوة الإيرانية . ولكن ربما لم يفت الوقت من أجل أن يتعهد مجلس التعاون بإيلاء هذا التحدي الأهمية التي يستحقها، واتخاذ التدابير الفاعلة من أجل إعادة موازين القوة إلى نصابها الذي يكفل استعادة ثقة حكومات وشعوب دول الخليج العربية بأنها تتمتع بالأمن الإقليمي الذي تستحقه .
ندرك أن مجلس التعاون لا يمتلك سجلاً ناجحاً في تحمل مسؤوليات الأمن الإقليمي، إذ إن هذا المجلس كان قد فشل في صدد أكثر من مناسبة أمنية، حين أخفق في ردع الغزو العراقي للكويت، وعجز عن تحريرها بشكل منفرد، وفشل في تجنيب العراق الغزو الغاشم في العام ،2003 وقصر في منع طهران من مد نفوذها إلى بغداد منذ الغزو وإلى اليوم . بيد أننا نقاوم السقوط في متاهة الاعتقاد أن مجلس التعاون يتأهل تلقائياً لكي يفشل في اتخاذ التدابير المؤسسية اللازمة من أجل التصدي لثنائية الأفكار التوسعية والممارسات العدائية التي تصدر من الضفة الأخرى للخليج العربي .
صار من الواجب أن تدرك إيران أن جبهة دول مجلس التعاون ليست مفككة بل هي متماسكة، ولكن صنع هذا الإدراك ليس من اختصاص طهران بل هو في صميم مسؤولية مجلس التعاون ذاته . إن نهوض مجلس التعاون بواجبه الأمني على المستوى الإقليمي هو في واقع الأمر استحقاق بأثر رجعي، يرجع تحديدا إلى الدافع الرئيسي الذي من أجله أنشئت هذه المنظومة تزامناً مع الثورة الإسلامية في القطر الإيراني . إن تقاعس مجلس التعاون عن الوفاء بالالتزامات التي تفرضها مسؤوليته المؤسسية في تحقيق أمن المنطقة يثير شكوكاً جوهرية حول سلامة فكرة إنشائه من أساسها، ويحسم بشكل نافذ الجدل حول مشروعية إقامته واستمراره في غير صالح قرار إنشائه ابتداء . إن سعي بعض دول الخليج العربية إلى الانفراد بلعب أدوار قيادية على مستوى المجلس هو أمر مفهوم على الرغم من أنه يتخذ مسارات غير محمودة أحياناً، ولكن الدور القيادي الأسمى الذي يتوجب على هذه الدول المتنافسة أن تسعى إليه وينبغي أن تنحج في تحقيقه يتمثل في تفعيل وظيفة الأمن الإقليمي بالنسبة للدول العربية في الخليج . إن بإمكان القيادات الخليجية الحالية أن تسهم بما تشاء من حكمتها الشخصية المستقاة من مدركاتها للمعطيات الإقليمية والدولية، بيد أننا نؤكد على أن الرؤية الموروثة من مخزون حكمة الآباء المؤسسين لمجلس التعاون بخصوص أهمية المجلس من أجل مواجهة التحدي الأمني الإيراني لا تزال صحيحة . إن مسارعة العديد من دول الخليج العربية إلى عقد الاتفاقات الثنائية مع القوى الاقتصادية والعسكرية على مستوى العالم لا تتماشى مع روح التكامل المؤسسي المتمثلة في مجلس التعاون، ولكن الخطر الداهم يتجسد في مسارعة بعض دول المجلس إلى عقد الاتفاقيات الأمنية مع طهران بشكل منفرد يستبق منظومة المجلس . إن اخفاق المجلس في تحقيق أهداف التكامل الاقتصادي والسياسي خلال السنوات الثلاثين الماضية مثير للحنق، ولكن استمرار اخفاق المجلس في القيام بواجباته في تدعيم الأمن الإقليمي لدوله الست يشكل كارثة بكافة أبعاد المعنى الكامل للكلمة .
التعليقات