محمد بن عيسى الكنعان

يقول الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - مخاطباً مالك النخعي: (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، هذه الكلمة الرشيدة من الخليفة الراشد تلخص بحكمة بالغة كل تعقيدات وتفاصيل وأبعاد (العلاقة مع

الآخر)، سواءً كان هذا الآخر مخالفاً عقائدياً أو متبايناً مذهبياً. وهنا لا يهمني في هذا المقام الحديث عن الآخر المخالف عقائدياً الذي يدخل في إطار (نظير المسلم في الخلق) كالمسيحي أو اليهودي أو البوذي أو غيرهم رغم الأهمية العظمى التي يوليها الإسلام مع هذا الآخر؛ كونه الدين الخاتم والرسالة العالمية. إنما لأني أعتقد ب(أولويات الحالة الإسلامية)، التي تضع العلاقة مع الآخر (المتباين مذهبياً) سابقة على أية علاقة أخرى؛ فترتيب البيت الإسلامي من الداخل يجب أن يسبق التعامل خارجه، غير أن هذه العلاقة المهمة في بناء الأمة ذات أبعاد تاريخية لم تسلم من التجارب والأحداث القاسية، واعتبارات شرعية لابد مراعاتها، وإشكالات معاصرة يعيشها المسلمون واقعاً؛ لهذا لم يعد (المتباين مذهبياً) قاصراً على المذاهب الكبرى الرئيسة داخل الدائرة الإسلامية العامة وهي السنة والشيعة والخوارج والفرق الباطنية، إنما تشظت المسألة عبر التاريخ (فقهياً) كالمذاهب السنية الأربعة وعلاقتها بعضها مع بعض، وكذلك تشظت (فكرياً) كالتيارات الفكرية الرئيسة من نقلية ك(السلفية)، وعقلية ك(المعتزلة) وفلسفية ك(الليبرالية) وغيرها.

هذه الفسيفساء الحضارية التي انتشرت على صعيد العالم الإسلامي، وتركزت بشكل كبير في الوطن العربي، وراحت تتعارك نظرياً وثقافياً بأبعاد تاريخية وعقائد متباينة وتطبيقات واقعية، خاصة بعد أن استبدت بها حمى (الرأي) على موائد (الحوار المفتوح) في أجواء (حرية التفكير) غير المحكومة بمرجعيات معينة، هذه الفسيفساء زادت في ثناياها حدة التباين بين (المذاهب الدينية والمدارس الفكرية) خلال التاريخ الحديث وواقعنا المعاصر بسبب الانفتاح الكبير، في ظل وسائط التقنية الحديثة كقنوات التلفزة الفضائية و(الإنترنت)، فضلاً عن الصحافة، نتج عن ذلك ظهور الغلاة في كل فريق وبين أتباع كل مذهب، سواءً على مستوى العقيدة أو الفقه أو الفكر، غير أن المحصلة النهائية أن هذا الغلو الفقهي أو الانحراف الفكري ساق أصحابه إلى (التفسيق) أو (التخوين) بين الإخوة في الدين.. بل ساقهم إلى (التكفير) الأعمى، الذي يُعد أعظم الجرائم الاجتماعية إذا وقعت دون حكم شرعي جلي؛ لأنه يفتح كل أبواب الفتنة للاحتراب الداخلي في الأمة.

بيد أن السؤال المحوري: هل سبب التكفير أو التخوين أو التفسيق أو أي موقف متشدد هو (الغلو الديني)؟ الذي نشأ في أكناف الفكر المتطرف وأقبية الفقه المظلمة دون الرجوع للراسخين في العلم والعمل بمنهج دعاة الوسطية والاعتدال أم هناك عامل مساعد؟.. لو كانت المسألة محصورة ب(الغلو الديني) فقط لأمكن لعلماء الدين الربانيين وطلبة العلم الشرعي المخلصين إجلاء كل فكر متطرف ودفع كل فئة ضالة أو دحر كل فرقة باغية عن واقع الأوطان والأمة بشكل عام، لكن الإشكال يكمن في وقوع الأمة بين فريقين كل فريق يبرر أفعاله بما يصدر عن الفريق الآخر، وهما غلاة (التكفير) الذين لم يتورعوا عن تكفير مخالفيهم، دون الاعتبار إلى أن التفجير والقيام بأعمال إرهابية في العالم الإسلامي بحجة التغيير عن طريق العنف هو منهج الخوارج القائم على (التكفير) ابتداءً. والفريق الآخر هم أدعياء (التفكير) الذين يهدفون إلى إسقاط كل المقدسات والطعن في ثوابت الأمة والتشكيك بتاريخ الإسلام وحضارته تحت حجج كاذبة ك(المساءلة الفكرية) و(الدراسة التاريخية)، و(النقد العلمي)، و(الإصلاح الديني).. وغيرها، على غرار التجربة الحضارية الغربية وفق الفلسفة الليبرالية، رغم أن الإسلام قد كفل حق (ممارسة التفكير)، لكنه حق مشروط بالحرية المسؤولة المحكومة بمرجعية معتبرة ترتبط بدين الدولة ونظامها السياسي! لهذا لا يأتي من يطالب ب(حرية التفكير)، وهو بالأساس يريد إخضاع نصوص الوحي للنقد والمساءلة والعبث، كما لا يأتي من (ُيكفّر) أبناء الأمة بذريعة الدفاع عن الإسلام وحمايته. نحن بحاجة إلى وسطية في المعاملات واعتدال في المواقف تحت مظلة الإسلام الخالدة.