جميل الصيفي


قيل الكثير عن حصار غزة المفروض منذ ما يزيد على ثلاث سنوات على أكثر من مليون ونصف المليون إنسان، فمنهم من وصفه بأنه وصمة عار في جبين المجتمع الدولي ومنهم من قال إنه أسوأ جريمة حرب ترتكب بحق المدنيين في القرن الحادي والعشرين ومنهم من وصفه بأنه عقاب جماعي لهؤلاء الناس على توجهات سياسية أو ثقافية معينة، ومنهم من زاد على ذلك بالقول إنه جاء بدافع من هواجس أمنية إسرائيلية وربما عربية كذلك.. وهنا تختلف الآراء ووجهات النظر، ولكن النقطة التي تكشّفت بجلاء مع مرور الأيام أن هذا الحصار قد أعطى نتائج عكسية باعتراف الجميع ومنهم بعض ممن خططوا ونفذوا هذا الحصار الظالم وذلك بسبب الرهانات الخاطئة لمن وقفوا وراء هذا الحصار.
أول الرهانات التي تبيَّن أنها كانت خاطئة وخاسرة أنه كان يهدف إلى تركيع حماس ودق إسفين بينها وبين سكان القطاع بسبب الخنق والحصار وبسبب ما تعرضوا له من ضنك العيش والفقر والبطالة ناهيك عن حرمان سكان غزة من أبسط مستلزمات الحياة ومنع تدفق السلع والخدمات إلى القطاع، ولكن أُسقط في يد من راهنوا على ذلك فلأول مرة في التاريخ الحديث يلجأ شعب أعزل محاصر من البر والبحر والجو إلى حفر الأنفاق تحت سطح الأرض من أجل الحصول على ما يحتاجه من السلع الضرورية ومن ثم الكمالية ناهيك عن إمدادات السلاح، وهذا أمر لم يعد من الممكن إخفاؤه بعد الآن ويجب أن توضع النقاط على الحروف والقول صراحةً أن حماس باتت أشد عودا مما كانت عليه قبل فرض الحصار عسكريا بل قل سياسيا واقتصاديا وماليا حيث باتت الوفود الأوروبية وحتى الأميركية تفتح قنوات اتصال مع حماس بشكل مباشر وغير مباشر ولا يهم إن كانت تلك القنوات رسمية أم شعبية كما حدث عندما التقى الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر قادة حماس سواء في غزة أم دمشق، والأمر نفسه ينسحب على الأطراف الأخرى التي كانت -وربما ما زالت- تناصب حماس العداء.
أما الرهان الإسرائيلي الخاسر الآخر فكان رهان زعمائها على أن الحصار سيجبر حماس على إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط بثمن بخس وربما مجانا لقاء رفع إسرائيل لحصارها عن غزة اعتقادا منهم أن الحصار سيقصم ظهر السكان ويكسر إرادتهم على المستويين الشعبي والرسمي وهذا ما لم يحدث، بل على العكس فإن حماس تطالب بثمن باهظ لقاء إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأسير وهي ما زالت متشبثة بمواقفها ولم تتزحزح قيد أنملة عن مطالبتها بإطلاق سراح المئات من الأسرى الفلسطينيين ممن تختارهم هي فضلا عن مطالب أخرى للحركة يخشى حكام إسرائيل من الاستجابة لها خوفا على موقفهم أمام الرأي العام الإسرائيلي الجانح نحو اليمين والتطرف وبذلك أصبح السجان أسير سجينه، أو هكذا تقول أدبيات وأبجديات السياسة والمراقبون للشؤون السياسية.
أما الرهان الإسرائيلي الخاسر الآخر فكان في التعويل على إحراج مصر الرسمية حيث وضعتها إسرائيل أمام خيارين أحلاهما مر، فإما أن تشارك مصر في خنق قطاع غزة وهو أمر مرفوض على المستويين الشعبي والسياسي، وإما أن تتبنى مصر قطاع غزة وتربطه ببنيتها التحتية وتمده بكل ما يحتاجه كما كان الحال قبل عام 1967 وتفتح الطريق أمام عودة السيادة المصرية على غزة والأردنية على الضفة الغربية، والقضاء على حل الدولتين، وبذلك تفك إسرائيل ارتباطها مع غزة كابوس إسرائيل وزعمائها المرعب منذ الاحتلال والذي أرّق عيون المسؤولين الإسرائيليين لدرجة أن إسحق رابين قال ذات يوم: أتمنى أن أستيقظ يوما ما لأجد البحر قد ابتلع غزة، ويبدو أن غزة هي من ستبتلع البحر وربما من تمنوا ذلك على ضوء تداعيات القرصنة الإسرائيلية الأخيرة على أسطول سفن الحرية وما تبعه من تطورات وضجة عالمية شعبية ورسمية من كافة أنحاء العالم حتى أولئك الذين كانوا يلوذون بصمت أهل القبور، ثم إن لهذا الرهان الإسرائيلي الخطير أخطارا جسيمة تتمثل في تحول قطاع غزة وبالتدريج ليكون دولة قائمة بحد ذاتها مفصولا عن الضفة الغربية وبذلك يتحقق حلم إسرائيلي آخر طالما راود صناع السياسة قصيري النظر وهو ترسيخ الانقسام الفلسطيني وتحويله إلى أمر دائم ونهائي بدلا من كونه أمرا عابرا سينتهي عاجلا أم آجلا.
الأمر الذي يحرق الكبد ويفطر القلب أن الأنظمة العربية بقيت صامتة طيلة هذا الوقت وحتى بعد أن قامت إسرائيل بعملية الرصاص المصبوب في غزة التي انتهكت فيها إسرائيل كافة الأعراف والقوانين الأخلاقية والدولية وقواعد شن الحروب وارتكابها لجرائم حرب أثارت مشاعر الغرباء من العالم أكثر مما أثارت حمية معظم زعماء الأنظمة العربية إن لم نقل كلهم واكتفوا بإرسال قوافل وإمدادات الإغاثة من المواد الغذائية وكأن في غزة حظيرة لتسمين الأنعام والأغنام وليس بشراً لهم حقهم مثل بقية سكان المعمورة ولهم كرامتهم الإنسانية والتي امتهنها القريب قبل البعيد، وكانت قوافل مساعداتهم إلى غزة تتم وفقا للمواصفات والشروط الإسرائيلية الظالمة، لكن الأمر اللافت للنظر والذي يجب الوقوف أمامه طويلا هو ما قامت به تركيا مؤخرا من محاولة لكسر هذا الحصار الظالم عن طريق تنظيم قافلة سفن أسطول الحرية وجندت لذلك مئات من المتضامنين مع قطاع غزة والشعب الفلسطيني من مختلف أنحاء العالم وهو ما أثار حفيظة زعماء إسرائيل المهووسين ودفعهم إلى ارتكاب حماقتهم الكبرى التي ستكلفهم غاليا وستؤدي لا محالة إلى كسر هذا الحصار الظالم إن عاجلا أم آجلا.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: laquo;هل كان الدم التركي أوْلى من الدم العربي بتحريك قضية حصار غزة عالميا؟.. ألم نملأ الأجواء شعارات تصم الآذان تتغنى بدعم ونصرة الأشقاء الفلسطينيين، أما كان من الأجدر أن يكون العرب ومنذ أمد طويل هم من قاموا بمحاولة كسر الحصار؟ أم أن إرضاء إسرائيل وأميركا له الأولوية على نصرة الأشقاء والإخوة المظلومين والمستضعفين؟raquo;
تذكروا أن التاريخ لا يرحم ولن تحميكم إسرائيل وأميركا من تدوين تقاعسكم وتخاذلكم في نصرة الدين والوطن والأخوة في فصل مخزٍ من التاريخ ناهيك عن أن الله يمهل ولا يهمل، فهل من متعظ؟ وهل من تائب؟ فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، أو هكذا يقال.