يوسف نور عوض

لفت انتباهي في الأيام الماضية طلب وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط من سفير بلاده في الخرطوم أن يستفسر عن تصريحات نسبت إلى وزير الخارجية السوداني الجديد علي كرتي وصف فيها الدور المصري في السودان بالضعيف بسبب قصور معلوماته عن تعقيدات الحياة في السودان، ولم أسمع تلك التصريحات بصورة مباشرة في مؤتمر صحافي من الوزير، ولكني لا أستغرب صدورها منه أو من غيره من المسؤولين السودانيين لأنها تحتوي على معلومات يؤمن بها كثير من المواطنين السودانيين الذين يرون أن مصر مشغولة بقضاياها الخارجية وخاصة في المجال العربي أكثر من انشغالها بالسودان، على الرغم من أن علاقتها مع السودان هي التي يجب أن تكون في مقدم اهتمامها، وإذا نظرت مصر إلى علاقاتها مع السودان فهي تنظر إليها بأسلوب استعلائي لا يتناسب مع حجم مصالحها في الجنوب، ويبدو ذلك واضحا في تصريحات حسام زكي المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية الذي قال إن مصر تقف دائما إلى جانب السودان وتحرص على أن يكون هناك توافق بين جميع القوى ذاكرا أن مصر تتبع سياسة متوازنة مع جميع الأطراف في السودان، وذهب إلى أبعد من ذلك عندما وصف الدور المصري بأنه يسهم في تنمية السودان انطلاقا من المصالح المشتركة بين البلدين.
من جانب آخر نرى هاني رسلان مدير وحدة دراسات السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية يقول إنه تبادل الحديث مع علي كرتي قبل الندوة التي أطلق فيها تصريحاته مؤكدا أن ما قصده الوزير يتعلق فقط بالنخبة المصرية التي لا تهتم بشؤون السودان إلا في وقت الأزمات وهو بالتالي لم يوجه انتقاداته للدولة المصرية، وليس ذلك موقف الدكتور وليد السيد مدير مكتب حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي وصف تصريحات كرتي بأنها عتاب الأحبة، مؤكدا في الوقت ذاته على أن تصريحات الوزير هي دعوة لأن يكون لمصر دور أكبر في السودان خاصة في دعم اتجاهات استمرار الوحدة مع جنوب السودان.
ولا شك أن مثل هذه المواقف أمر عادي في العلاقات المصرية السودانية، ذلك أن مصر ظلت تلعب دائما مع السودان دور الشقيق الأكبر، وهي لا تتفرغ في العادة له تفرغا كاملا، وتكتفي في معظم الأحيان بإشارات توحي فيها أنها تهتم بقضايا السودان، وإن لم يكن هناك دليل ملموس على ذلك، وظل السودان طوال الوقت يقبل هذه المواقف من مصر ولكن هل السودان هو الذي يحتاج لدعم مصر أم أن مصر هي التي تحتاج لدعم السودان؟
هنا لا بد أن نعيد قراءة خريطة العلاقات بين البلدين لنرى إن كان قد حدث تغير جوهري فيها، ولا نريد أن نذهب بالتاريخ بعيدا إذ يكفي في البداية أن نتوقف عند مرحلة محمد علي باشا خديوي مصر الذي كان له الفضل في تأسيس السودان الحديث، وتقول كتب التاريخ إن الحدود التي رسمها محمد علي باشا في عام ألف وثمانمئة وعشرين هي الحدود التي يعرف بها السودان الآن، وتقول هذه الكتب إن هدف محمد علي باشا بالتوجه جنوبا كان الحصول على المال والرجال ولا شك أن ذلك لم يكن سببا مقنعا لأن محمد علي باشا لم يكن يفتقر إلى الرجال الذين يحاربون في جيوشه وهي الجيوش التي استطاعت أن تفتح بلاد السودان كما أنه لم تكن في تلك الحقبة مغريات مادية يمكن أن يقال إن محمد علي كان يسعى لأجلها، والأرجح هو أن محمد علي باشا كان له هدف استراتيجي هو توفير الحماية لمصر بالوصول إلى منابع النيل والتأكد أنه ليس هناك ما يهدد الأمن المائي لها، وثبت ذلك من واقع أنه حين وصل إلى السودان لم يندفع وراء الأسباب التي ذكرها المؤرخون، ومع ذلك أخطأ محمد علي باشا حين ظن إن تأمين مياه النيل لمصر يعني فقط السيطرة على السودان، وبالتالي لم يراع خصوصية أهله الذين لم يطلقوا على حكم محمد علي اسم الحكم المصري بل أطلقوا عليه اسم الحكم التركي مع أنه كان حكما مصريا خالصا، وقد انطلقت ثورة المهدي التي أنهت هذا الحكم ليس من أجل طرد المصريين بل من أجل إنهاء النظام التركي، وقد تحركت جيوش المهدية في فترة لاحقة لتحرير مصر ذاتها وأخفقت في معركة توشكى.
ولكن مصر حتى هذه المرحلة لم تع الدرس ولم تفكر في إقامة علاقة خاصة مع السودان، فقد تحالفت مع القوات البريطانية في عام ألف وتسعمئة وثمانية وتسعين وهاجمت السودان لتقيم الحكم الثنائي المصري الإنكليزي الذي استمر ستين عاما، ولم يكن للمصريين أي نفوذ فيه لأنه كان حكما إنكليزيا خالصا، والغريب أنه على الرغم من تحالف المصريين مع الانكليز لحكم السودان فقد قامت ثورة أربعة وعشرين بقيادة علي عبد اللطيف ترفع شعار الوحدة مع مصر، و تأسست الحركة الوطنية في السودان تحت شعار وحدة وادي النيل، وفي الوقت الذي كان السودانيون فيه يؤمنون بوحدة المصير في وادي النيل كانت الحركة السياسية في مصر تعتقد أن الحركة السياسية في السودان تحتمي بها وهي القادرة على أن تقدم لها السند الذي لن تلقاه من غيرها في مواجهة الاستعمار الانكليزي، واستمر الحال على هذا المنوال حتى قيام ثورة تموز/يوليو عام ألف وتسعمئة واثنين وخمسين التي ظهرت فيها تحولات لم يتوقعها السودانيون الذين كانوا شديدي الحماس لوحدة وادي النيل حتى تلك المرحلة، على الرغم من شعورهم بالألم لإزاحة اللواء محمد نجيب ذي الأصول السودانية من الحكم، وربما كان ذلك من الأسباب التي جعلت الرئيس جمال عبد الناصر يدير ظهره للسودان بل ويعمل على إقامة السد العالي الذي شرد النوبة همزة الوصل التاريخية بين مصر والسودان من بلادهم ليعيشوا في مناطق لا تنتمي لثقافتهم، وعلى الرغم مما قيل عن أهمية السد العالي فالحقيقة هي أن المشروع قد تم دون تصور مستقبلي لما قد يحدث في منابع النيل مستقبلا، ولم يكتف عبد الناصر بذلك بل أدار ظهره للسودان بشكل كامل مندفعا وراء توجهاته العربية دون أن تكون له رؤية خاصة لمفهوم الوحدة العربية أكثر من توحد الدول العربية كلها تحت زعامته على الرغم من إخفاقه في المحافظة على الوحدة المصرية السورية.
وعلى الرغم من ذلك فإن أول انقلاب عسكري وقع في السودان عام ألف وتسعمئة وثمانية وخمسين بقيادة الفريق ابراهيم عبود أعلن أن من أهدافه إزالة الجفوة المفتعلة بين مصر والسودان دون أن يحدد ما تلك الجفوة، وأغلب الظن أن المقصود بها هو إعادة مفهوم وحدة وادي النيل من جديد إلى وجدان الناس في مصر والسودان، ولكن نظام عبود لم يفعل أكثر من تسليم أراضي النوبة لمصر لتغرقها مقابل خمسة عشر مليون دولار لم تكن كافية لنقل سكان النوبة إلى قراهم الجديدة ناهيك بتعويضهم عن خسائرهم المادية الكبيرة.
وكان طبيعيا أن تقوم ثورة تشرين الاول/أكتوبر في السودان وهي الثورة التي أسقطت نظام الرئيس عبود وكانت أول ثورة شعبية تسقط نظاما عسكريا في العالم العربي وقد ناصبتها مصر العداء وظهر ذلك في مقالات محمد حسنين هيكل عن تلك الثورة وهي مقالات أغضبت الشعب السوداني، وكان التفسير الوحيد لها هو أن مصر لم تكن تريد للنموذج السوداني أن يتكرر في مصر.
ولكن النظام الديمقراطي في السودان لم يستمر طويلا، وبعد نكسة عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين جاء نظام نميري في عام تسعة وستين الذي وصفه الرئيس عبدالناصر مع نظام العقيد معمر القذافي بأنهما النظامان اللذان جددا شباب الثورة المصرية، وهو كلام لم يثبت في الواقع العملي بسبب التطورات التي حدثت في النظامين، وليس هذا مجال تفصيلها. وانتهى نظام النميري ليأتي نظام ديمقراطي لم يصمد طويلا لتعقبه ثورة الإنقاذ التي توصلت إلى حل لقضية الجنوب يقوم على استفتاء شعبي يقرر فيه الجنوب مصيره، هل هو يريد الاستمرار في وحدة مع الشمال أم يريد الانفصال؟ وكل الدلائل تشير إلى أن هناك أيادي أجنبية لها مصلحة في فصل جنوب السودان، وظهرت في الوقت نفسه أزمة مياه النيل، ولكن مصر حتى هذه المرحلة لم تتنبه للخطر الذي يواجهها فبدأت تحركات من أجل إقامة علاقات حسنة مع القادة الجنوبيين ظنا منها أنه لو حدث الانفصال فيمكنها أن تحافظ بمثل هذه العلاقات على مصالحها المائية، وذلك ما لن يحدث لأن حوض النيل يتعرض لمؤامرة كبرى والمتضرر ليس السودان بل مصر في المقام الأول، لأنها دولة مصب وقد تضاعف عدد سكانها ليصل إلى ثمانين مليونا وهي تمتلك رقعة زراعية ضيقة ولا تستطيع أن تتوسع في الصحراء بمياه النيل ،لأنه لو حدث ذلك فسيطالب سكان دارفور بأن تصلهم مياه النيل كما أن المصريين لن يستطيعوا الهجرة جنوبا لأن الوقت اصبح متأخرا، وبالتالي يجب أن تقرأ مصر حجمها قراءة صحيحة وتفكر ماذا يجب أن تفعله مع السودان لا من أجل السودان، كما كان ذلك شأنها دائما حتى لا يشهد وادي النيل أكبر أزمة في تاريخه، وإذا كنا قادرين على أن نحلل أسباب هذه الأزمة فلا شك أننا نحتاج إلى وقت طويل من أجل التفكير في الخروج منها بشرط أن تفكر مصر بطريقة موضوعية وتنزل إلى واقعها الحقيقي قبل فوات الأوان.