منير شفيق


مرّت بفلسطين عبر تاريخها المعاصر قيادات عظيمة ختمت حياتها بالاستشهاد أو السجون والمنافي.
وعرفت فلسطين في تاريخها قيادات عاشو حياتهم وختموها بملحمة مأساة. وخبِرَت قادة في تجربتها الطويلة حاولوا الرقص على الحبال العربية أو الدولية فذهبوا غير مأسوف عليهم، أو ما زالوا لا قيمة لهم. وابتليت فلسطين بقيادات انحرفت عن المبادئ وقدّمت التنازلات وانتهوا بفاجعة، وكل فاجعة غير الأخرى.
ومؤخراً عرفت فلسطين قيادات تعايشت مع خيبة الأمل بالتسوية، وقد تعرّت من أجلها، فانتهت مساعيها من أجل ضمانة مستقبل أبنائها في عالم الصفقات والأموال. ولكن فلسطين لم تعرف قيادة مثل قيادة سلام فياض، تشارك العدو في قسوته الأمنية على الشعب، وقد هبطت عليه بمظلة من طوافة أميركية، فكرسّت الانقسام ووضعت الضفة الغربية تحت أقدام جنرال أميركي اسمه كيث دايتون.
هذه القيادة أصبحت شذوذاً في تاريخ اجتمعت فيه المآسي والكوارث والشهداء، وقد جاءت من خارج التاريخ الفلسطيني لتنقلب عليه 180 درجة.
إنها بطبيعة الحال تسير ضدّ الشعب وقضيّته كما لم يفعل أحد من قبل، رغم الذين تراجعوا عن الثوابت بما يشيب لهوْله شعر الوِلدان.
أن تصبح جلاداً للضفة الغربية، وحارساً على أمن قوات الاحتلال، كابتاً للأنفاس، مانعاً لأي تضامن مع قطاع غزة وهي تحت الحصار أو وهي في مواجهة العدوان الصهيوني، وحتى التضامن الفعلي مع أسطول الحريّة، فهذا أمر لم تعرفه فلسطين قط. ولكي يكتمل هذا النموذج من القيادة الشاذة في تاريخ فلسطين، راحت تحوّل نفسها إلى مهزلة وأضحوكة وبهدلة، وهي تظن أنها في ذلك تتستّر على فضيحتها في التعامل الأمني غير المحدود مع الاحتلال الصهيوني، وفي محاولة إخراج الضفة الغربية من معادلة الشعب الفلسطيني، وهي التي كانت دائماً في القلب منه، وفي مقدّمته، وستبقى.
كيف؟.. بدأت العملية بشراء ضمائر بعض الكوادر سواء بتقليدهم مناصب ما كانوا ليحلموا بالوصول إليها، أو بتقديم رشاوى مكشوفة (تمليكاً لبيوت وشقق) وغير مكشوفة (أرصدة وسواها).
كان هذا على مستوى التعامل على أساس بناء مؤسسات الدولة تحت دعوى laquo;التنظيم والكفاءة والابتعاد عن الفسادraquo;.
ثم تمّ الانتقال لتبييض الصفحة المتسّخة بالتعاون الأمني مع العدو والمشاركة في أخصّ مؤسسّاته (مؤتمر هرتسليا)، والإعداد لإعلان الدولة بعد بناء مؤسسّاتها، كأن المشكلة في بناء المؤسسّات وليس في الاحتلال وتحرير الأرض.
وهنا تبرز laquo;كيفraquo; ثانية حول laquo;تبييض الصفحةraquo;؟
الإعلان أسبوعياً عن مشروع مدرسي أو اجتماعي أو ثقافي، وتحضير المسرح لمشاركة رئيس الوزراء وسماع خطاب laquo;تنمويraquo; منه. وهنا يُصار إلى ترتيب العلاقة بينه وبين بعض الوجهاء (لاختلافهم)، ولا لغة هنا غير لغة الرشاوى والتوظيف في مؤسسّات الدولة. طبعاً هذا الأسلوب معروف، وقد مورِس منذ عهد الانتداب على نطاق واسع مع المخاتير ووجهاء العائلات، ولكنه لم يُجْدِ نفعاً في نهاية المطاف لأنه يصبّ في معارضة صارخة في السياسة مع الرأي العام الفلسطيني.
ففلسطين لا تعالج مشاكل شعبها ببناء مدرسة، أو مشروع زراعي، أو رشوة وجيه، فمشكلتها سياسية وجودية لا حلّ لها مع استمرار الاغتصاب الصهيوني للأرض وتهجير السكان، أو مع الاحتلال والمستوطنات وتهويد القدس. فكل ما يفعله فياض في محاولة التقرّب الشكلي من الوجهاء والموظفين -ومهما دفع من ثمن- لا قيمة له غير خداع النفس أو الانخداع بما يقوله المنافقون والتُفَّه والمباعون.
ولكن المختلِف الجديد في قيادة سلام فياض عن قيادات واحتلالات حاولت تملّق الشعب بتلك الأساليب، هو إدخال طرق الدعاية المؤمركة الحداثية على التحرّكات.
مثلاً، أن يضع الحطّة الفلسطينية على كتفيه ويذهب إلى نِعلين معلناً مقاومة الجدار، فيبدو مشهداً هزلياً ينقله التلفاز كأنه يقول للمشاهد laquo;لا تظن أنني أضحك عليك بهذه البهلوانياتraquo;.
أو مثلاً، عندما يضع على باب بيته: laquo;هذا البيت خال من منتجات المستوطناتraquo; ويأخذ الصور، وهو الذي يقبل -مثله مثل محمود عباس- بمبدأ تبادل الأراضي في الضفة، أي ضمّ المستوطنات لدولة الكيان الصهيوني. أفلا نكون أمام بهلوانية وإن كان نتنياهو قد غضب منها. فنتنياهو لا يرضيه حتى ما يقوله الصهاينة الأقل تطرّفاً نسبياً منه، فليس موقف نتنياهو بحجّة للتستّر خلفها.
وبالمناسبة، كل التنازلات الفلسطينية تستّرت بحجّة المعارضة الصهيونية لها.
أو مثلاً، ذلك المنظر المضحك الذي ظهر فيه سلام فياض في ملعب laquo;الماراثون الرياضيraquo; وهو يلبس القميص الأحمر وحوله المزركش وعلى رأسه laquo;الكاسكيتraquo;، باعتباره laquo;راعي الرياضةraquo; أو laquo;الرياضي الأولraquo;.
وهكذا نكون أمام بهلوان يريد أن يخفي أنيابه ومخالبه الدامية المغروسة في الضفة الغربية، وفي لحوم أبناء المقاومة الفلسطينية، من خلال اتفاقه الأمني مع الاحتلال. هذا ومن دون فتح الملف السياسي الذي يبدأ بخطابه في هرتسيليا ويريد أن ينتهي ببناء مؤسّسات الدولة لإعلانها بما تيّسّر من مكان في ظل الاحتلال. وما أعلنه من تفهّم أو laquo;لا اعتراضraquo; على الرواية التوراتية التي يستند إليها الكيان الصهيوني في اغتصاب فلسطين.