سليمان تقي الدين
تتسع حركات الاحتجاج على الغلاء وتدني مستويات المعيشة وغياب الاستقرار الوظيفي وشبكات الأمن . المعلمون وسائقو التاكسي والميامون في مؤسسة كهرباء لبنان ونقابات الاتحاد العمالي العام . من جهة ثانية أظهرت الانتخابات البلدية هوامش مهمة من الاعتراضات على الاحتكار السياسي للسلطات المحلية . عشرات آلاف الأصوات صبّت ضد لوائح القيادات الطائفية لأسباب مختلفة، شخصية وسياسية وعائلية . قواعد الأحزاب غير الطائفية تضغط باتجاه فعل سياسي مستقل، والأحزاب الطائفية تتذمر عناصرها من البطالة جراء سيطرة اللعبة السياسية الفوقية وانخراط نخب هذه الأحزاب في السلطة .
لا نريد المبالغة في حجم هذه الظواهر كما لا يجوز التقليل من أهميتها . ما هو موجود من حراك ليس مشروعاً سياسياً وليس حركة اصلاحية . هذه حالات احتجاج على تفاقم أوضاع تضغط على حياة الناس بينما تتسع الفجوة بين التمثيل السياسي وهموم الجمهور . أولويات الناس التي ادّعى البيان الوزاري أنها في اهتماماته لم تحظ بأية معالجة . تتراكم المشكلات الصغيرة والكبيرة والمواطنون بلا مرجعية يشكون لها قادرة على المساعدة . تقف الدولة كلها عاجزة أمام قوى الاحتكار، في الدواء والغذاء، وأمام استباحة الملك العام والطبيعة والبيئة، وأمام الفساد المنظم الذي تتشارك فيه كل السلطات والنافذين .
هذا وضع يستدعي أن تتصدى له قوى المجتمع المدني وأن تحاول تأطيره وتفعيله ليأخذ موقعه الجدي في التفاعلات السياسية، لكن قديم الأحزاب لم يندثر وجديدها لم يولد . كل المحاولات القائمة هي إيجاد تزاوج بين مؤسسات حزبية أغلقت على نفسها أمام رياح التغيير وضروراته، ونخب سياسية مستقلة عاجزة عن تكوين تيارات منظمة جديدة .
عملية الانتقال من الصالونات السياسية التي تكاثرت في العقدين الأخيرين، إلى التيار السياسي الشعبي ليست سهلة . كلما جرت محاولة على هذا الصعيد تعترضها عقبات كثيرة . المجتمع السياسي اللبناني كله موزع على خارطة جغرافية وديمغرافية تشبه دوائر النفوذ الطائفي والمناطقي . حجم الوطأة السياسية لحضور القوى المركزية في الطوائف، القامع لكل أشكال الانفكاك والتمايز هائلة . لم يمنع ذلك بعض الناشطين من المحاولة . لكن التوفيق بين تنظيم فاعلية الحراك الاجتماعي والسياسي المستقل وبين مؤسسات الأحزاب فيه مغامرة بدت غير محسوبة . تدافع الأحزاب عن مرجعيتها وسلطاتها حتى لو كانت تشعر بالتراجع والوهن وعدم الفاعلية على المستوى الوطني . انخرطت الأحزاب في لعبة المنافسة البلدية وسجلت في تقاريرها ما اعتبرته إنجازات هنا أو هناك . ما يشغل الأحزاب هو حصتها من التمثيل لا دورها في العمل الوطني والديمقراطي، ولا طبعاً هيبتها المسموعة على مستوى الدولة . لم تعد الدولة تأبه لأي موقف ولأية مطالبة إصلاحية . الشارع والعمل الجماهيري لم يعد مسرح هذه الأحزاب، بل هو في قبضة أحزاب الطوائف . في معظم الأحوال الحراك السياسي هو حراك ضباط بلا جنود . هناك جرأة وشجاعة أحياناً، ولكن ليس هناك الحكمة الكافية لإدارة هذا الحجم من التناقضات الشخصانية والسياسية في آن . يقتل المشاركون النصوص والوثائق والأوراق والبرامج قتلاً في المنافسة، ويعطون جهوداً أقل للعمل المباشر والتجربة . الإسقاطات الذاتية لا تستوعب كامل المشهد . الرغبة أقوى من الإمكانات . سحر الكلمة أقوى من الحاجة إلى الارادة . المركزية السياسية أقوى من الحراك الدائر في المناطق والقطاعات . التوحيد السياسي يحتاج إلى قيادة مركزية، لكن لا يمكن أن تكون منفصلة عن القوى الاجتماعية . أن تلتقي نخب من المهمشين في المناطق هي خطوة مهمة، لكن أن تتحول إلى فعل جماعي منسجم منسق هو الأساس .
منذ تشكيل ldquo;حكومة الوحدة الوطنيةrdquo; هناك قوى سياسية في بطالة . الخطة الدفاعية وسلاح المقاومة إلى هيئة الحوار، والعلاقات اللبنانية السورية أخذت طريقها عبر المؤسسات . انفتاح الفريقين على معالجة ما قيل إنه عدم توازن في تلك الاتفاقات يؤكد أنها ليست قضية خلافية . يريد البعض أن يفتعل المشكلات، فيطرح مسألة المجلس الأعلى اللبناني السوري على بساط البحث، ويدعو إلى مراجعة محكمة العدل الدولية . بالونات سياسية جديدة تستثمر على مشاعر اللبنانيين من دون جدّية .
في مكان آخر يعاد طرح موضوع السلاح مع علم هذه الجهات باستحالة معالجته بوسائل الإعلام والشارع . يذهب البعض إلى إحياء شعار حياد لبنان، في الوقت الذي يشتبك فيه لبنان سياسياً مع ldquo;إسرائيلrdquo; حول بعض أراضيه المحتلة، والخروق الجوية اليومية، ومطامع ldquo;إسرائيلrdquo; في الثروة النفطية المتوقعة على الشاطئ اللبناني . هذا الفريق من اللبنانيين يصر على التمايز، وعلى إقحام جمهوره في النزاعات الإقليمية عكس ما يدّعي . يتصرف وكأنه يستطيع أن يقرر مصير لبنان، في حين يتحول إلى أضعف فريق في المعادلة اللبنانية . يشتبك سياسياً مع الجماعات الأخرى، وهو يعرف أن القضايا الخلافية الكبرى بما فيها موقع لبنان في الصراع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo; لا يقررها حتى اللبنانيون كلهم . المشكلة التي يرتكبها هذا الفريق أنه يساهم في تأجيل معالجة قضايا المواطنين وتطوير المؤسسات وبناء الدولة . الهدوء السياسي الذي خيّم على البلد تقطعه هذه الاعتراضات بدل أن تكون مناسبة لتطوير الإدارة والاقتصاد وحل الأزمات الاجتماعية .
يتصرف القادة السياسيون بمعزل عن اهتمامات جمهورهم الحياتية، لأنهم يتلقون دعماً خارجياً، وتقوم أحزابهم بالاعتياش على هذا الدعم . نائب وزير الخارجية الأمريكية كشف عن إنفاق خمسمائة مليون دولار في السنوت الأربع الماضية لتشويه صورة المقاومة . لا نتحدث عن أشكال تمويل أخرى ومنها إنفاق مليار دولار على الانتخابات . هناك ظاهرة لبنانية غير مسبوقة في العالم . السياسة اللبنانية تعيش على دعم الخارج وتستقل عن هموم الناس . يقال إن ظاهرة التمويل تراجعت مع تراجع حدّة الأزمة . ربما لهذا السبب انخفض منسوب التصعيد السياسي، وانخفضت حدّة التجييش . هل يمكن للبنان أن يستثمر لحظة الاستقرار؟
التعليقات