جورج سمعان


لم تكن الولايات المتحدة تحتاج إلى إرسال رئيس أركان جيوشها الأميرال مايكل مولن إلى كابول لطمأنة الرئيس حـميد كرزاي إلى مواصلة استراتيـجـية حلف شـمال الأطلـسي في هذا البـلد. فلو كان هناك تغـيير في هـذه الاستـراتيـجيـة لما كان الجنرال ستانلي ماكريستال قائد القوات الأميركية وحلف laquo;النـاتوraquo; في أفغـانـسـتان صرح بما صـرح، ولما كان الرئيـس بـاراك أوبـاما عـاقبه مثل هذا العقاب المذل، لأن تصريحاته laquo;تقوض السيطرة المدنية على القوات العسكرية وهي سيطرة في جوهرraquo; النظام الديموقراطي الأميركي، على حد قول الرئيس.

وجاء تعيين ديفيد بترايوس خلفاً لماكريستال ليهدئ من العاصفة التي أثارتها تصريحات الجنرال المُقال. ولكن قبل ذلك لطمأنة الأميركيين، قبل كرزاي، إلى أن الوضع في أفغانستان بات في يد قائد عسكري مجرب، حقق نجاحات في العراق، ويتحلى بقدر كبير من الكفاءات والدراية في التعامل مع المؤسسات المدنية السياسية، فضلاً عن معرفته بالملف الأفغاني وتشعباته الداخلية والاقليمية. لكن تهدئة العاصفة شيء وطي صفحة الخلافات والانقسامات بين المدنيين والعسكريين المحيطة بالاستراتيجية الجديدة في أفغانستان شيء آخر. فالخلاف لم يكن على القائد الميداني المُقال حتى تنتهي المشكلة بمعاقبته والتخلص منه، بقدر ما كان على الاستراتيجية نفسها. لقد أساء ماكريستال في التعبير عن مواقفه، أو ربما قصد الخروج باكراً لئلا يتحمل نتائج سياسة يرسمها سياسيون بعيدون من مسرح العمليات آلاف الأميال فيما هو يعيش يومياً وقع الحرب في الميدان. وهو إلى ذلك قائد كبير في المؤسسة العسكرية. ما يطرح السؤال عن سبل توفيق القائد الجديد بين إدارتين مدنية وعسكرية للوضع في أفغانستان احتمالات نجاحه.

والواقع أن اعتراضات ماكريستال وانتقاداته الأخيرة لم تكن الأولى. فالجنرال laquo;المتمردraquo; اعترض بداية على الاستراتيجية التي أعلنها الرئيس أوباما في آذار (مارس) 2009. واضطرت الإدارة بعد نقاشات طويلة إلى إجراء تعديل أساسي على هذه الاستراتيجية أعلنه الرئيس نفسه في نهاية العام الماضي. وكان من نتائجها إرسال نحو ثلاثين ألف جندي أميركي ليبلغ عديد هذه القوات نحو مئة ألف. أي تطبيق الخطة التي اعتمدها الجنرال بترايوس في العراق وحققت شـيئاً من الـنـجاح، أولاً بخفض أعمال العنف وثانياً بتجنيب البلاد حرباً أهلية واسعة.

وأقر مؤتمر لندن، مطلع هذا العام، بحضور الولايات المتحدة ونحو سبعين دولة، إنشاء laquo;صندوق السلام وإعادة الدمجraquo;. أي وضع خطة للتعجيل في توسيع قدرة الجيش الافغاني وتدريبه، والسعي إلى دمج المواطنين في الدولة وإبعادهم من laquo;طالبانraquo; بتوفير الأموال اللازمة لهم ومساعدتهم على مواجهة المصاعب الاقتصادية. وقد توقعت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أن ينضم كثير من مناصري الحركة إلى مساعدة الحكومة مقابل رواتب كانوا يتقاضونها من laquo;طالبانraquo;. تماماً كما حدث في العراق في تجربة laquo;الصحواتraquo; في مقاتلة laquo;القاعدةraquo;. وأقر أيضاً مبدأ فتح الحوار مع laquo;طالبانraquo;... ولكن بعد إضعافها وإنهاكها عسكرياً.

لكن النتائج التي لمسها العسكريون، بعد بدء تنفيذ الخطط الجديدة، أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لحسم الحرب. كما أن التلويح بالعصا لدفع laquo;طالبانraquo; الى التفاوض مع كابول أيضاً لا يكفي ما لم يعرف القيمون على الحرب، عسكريين ومدنيين، مسرح العمليات. أي المسرح البشري وليس الميداني فحسب. أي البيئة الاجتماعية من ثقافة وتقاليد. وهي تختلف تماماً عن الوضع في العراق. وكتب الجنرال ماكريستال نفسه مقالاً مطلع شهر نيسان (ابريل) الماضي أكد فيه أن laquo;السبيل الوحيد الى إحراز النجاح هو استمالة ثقة الأفغان ومساندتهم. وعلينا القيام بعملياتنا على نحو يحترم السكان ويحميهمraquo;. وشدد على وجوب laquo;إنشاء الجيش الأفغانيraquo;. وعزا مصدر قوة laquo;طالبانraquo; إلى laquo;ضعف الحكومة الأفغانيةraquo;. ولم يعارض مبدأ المصالحة مع الحركة بعد تأمين الشروط الأمنية التي تتيح للسياسيين اتخاذ القرارات laquo;فنهاية النزاع مخرج سياسي على شاكلة الحروب كلهاraquo;.

وكان الجنرال المُقال يعبر صراحة عن رأي العسكريين في أن عناصر الاستراتيجية الجديدة لهذه laquo;الحرب الضروريةraquo; التي تمسك بها أوباما تعاني اختلالات كثيرة. وجاءت الخسائر القياسية في صفوف القوات الدولية هذا الشهر لتؤكد أن laquo;طالبانraquo; لا تزال حاضرة بقوة ليس في مناطق نفوذها فحسب، بل في كابول ومناطق سيطرة قوات laquo;الناتوraquo; نفسها.

والواقع أن عوامل عدة تركت آثاراً سلبية في سير الاستراتيجية. فالرئيس أوباما حدد موعداً مبكراً للانسحاب من أفغانستان - تموز (يوليو) 2001 - لا يتناسب وحجم الحرب في تقدير العسكريين الذين يرون أنها تستغرق وقتاً أطول من ذلك بكثير. وقد صرح وزير دفاعه روبرت غيتس نفسه قبل مدة أن حلف laquo;الناتوraquo; لا يزال بحاجة إلى ما يقرب من 450 مدرباً لاستكمال عملية بناء الجيش الأفغاني laquo;التي من دونها لن تكون هناك استراتيجية خروج من الأساسraquo;. كما أن مثل هذا الموعد المبكر، شجع الرئيس كرزاي على بدء الإعداد لإدارة موالية له تحفظ له ولعائلته المتهمة بالفساد البقاء في السلطة. وهو لم ينس الحملة التي شنت عليه أثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة وما قيل عن تزويرها... وعن فساد عائلته ومحيطه. وكذلك بدا هذا الموعد المبكر أيضاً كأنه دعوة صريحة إلى laquo;طالبانraquo; لوقف الحوار، أو على الأقل التشدد في مطالبها وعلى رأس شروطها انسحاب القوات laquo;الغازيةraquo;... ما دام القائد الأعلى لهذه القوات يستعجل الانسحاب!

واكتشف ماكريستال أن الحملة التي كانت مقررة على قندهار ستتأخر وستسير بطيئة بسبب ما سماه laquo;صعوبات تواجه عملية كسب الدعم والمساندة من السكان المحليينraquo;. وكان عبر عن امتعاضه من بطء أو حتى غياب خطة ملء الفراغ في مرجة بعد طرد laquo;طالبانraquo; منها. أي أنه كان يتوقع من المسؤولين الأميركيين المدنيين في كابول وواشنطن التعجيل في خطة لاحتضان السكان في بلد لا يضير المقاتلين فيه أن يبدلوا بندقيتهم بين ليلة وضحاها. فضلاً عن اضطرار بعض المسؤولين إلى محاباة الفاسدين من أهل السلطة في كابول وقندهار. ومعروف كيف تصالحت واشنطن مع كرزاي على رغم كل ما قيل فيه وفي عائلته.

وكان لافتاً أن يقول أوباما بعد لقائه ماكريستال انه سيقوم بكل ما هو ضروري للنجاح في افغانستان وتحقيق هدف عرقلة او تفكيك تنظيم laquo;القاعدةraquo; وهزيمته! في حين كان الجنرال المُقال كتب قبل شهرين: laquo;نحن رصدنا وصول ذخيرة من إيران، وفي حوزتنا وثائق على تدريب إيران مقاتلين. ولا يقاتلنا مقاتلون من laquo;القاعدةraquo;، ولم نقع عليهم في ميادين القتالraquo;! من يقاتل الأميركيون إذاً؟ السياسيون يقاتلون laquo;القاعدةraquo; والعسكريون يقاتلون laquo;طالبانraquo; التي يعزو قادتها عدم قدرة قوات laquo;الناتوraquo; والقوات الحكومية على تحقيق انتصار حاسم ضدهم، إلى أن أهل المنطقة يؤيدونهم هم ويقفون إلى صفهم ضد laquo;الغرباء الغازينraquo;.

يبقى ان الولايات المتحدة التي شجعت الرئيس كارزاي على إشراك القوى الاقليمية المؤثرة، باكستان والسعودية وتركيا وحتى إيران، في توجهه نحو مصالحة laquo;طالبانraquo;، تدرك صعوبة المهمة الموكلة إليه... ما دامت الأزمة الأفغانية جزءاً لا يتجزأ من حزمة الأزمات الاقليمية المترابطة، من فلسطين إلى العراق إلى المواجهة المفتوحة بين الجمهورية الاسلامية والغرب حول الملف النووي الإيراني... فهل ينجح بترايوس في تحقيق ما فشل ماكريستال في تحقيقه في كابول و... واشنطن؟

كل هذه العناصر تركت آثارها السلبية على الخطة الجديدة في افغانستان. فكان لا بد ربما في نظر ماكريستال من أن يترك الأمر العسكري والسياسي المدني في أفغانستان للقوات المحاربة على الأرض. كأنه كان يتوقع الفشل ففضل أن ينسحب باكراً ليتحمل السياسيون في إدارة أوباما المسؤولية. لذلك استعجلت الحركة التعليق على إقالته بالقول إنها هزيمة واضحة للمشروع الأميركي.