محمد الصياد


تقاطعت وتنافرت الأجندات الاقتصادية العالمية في الآونة الأخيرة، خصوصاً منذ اندلاع الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية في سبتمبر/أيلول عام ،2008 ما بين مجموعة دول تنحو نحو الحمائية سواء على صعيد علاقاتها التجارية الخارجية بزيادة قيودها الكمية وغير الكمية على الواردات أو توسيع نطاقها، أو على صعيد أسواقها الداخلية بتشديد وتوسيع دائرة القيود والرقابة على قطاعاتها المصرفية والمالية، وهي هنا الدول الرأسمالية المتقدمة، وما بين مجموعة دول تفضل دعم زخم النمو وعدم التضييق على أدواته بما فيها المصارف والمؤسسات المالية، سبيلاً لتجاوز كافة آثار الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية، وهي هنا الدول النامية ذات الاقتصادات الصاعدة .

والحال أن الدول الرأسمالية المتقدمة، بدءاً بالولايات المتحدة ومروراً بالبلدان الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (27 دولة) وانتهاءاً باليابان، قد اختارت منذ اندلاع الأزمة المالية في سبتمبر ،2008 أن تطفئ نيران الأزمة بإلقاء ldquo;أطنانrdquo; من النقود في أتونها، هي عبارة عن حزم تحفيز مالية استهدفت حقن الطلب المحلي وإعادة تسخين الاقتصادات الوطنية التي كانت تتهادى نحو هاوية الركود .

وبالفعل نجحت هذه الحملات الوقائية في إسعاف الاقتصادات القومية لهذه البلدان وتخفيف عوامل ضغط الركود، بل إنها أدت إلى إعادة حتى أكثر الاقتصادات تأثراً بالأزمة، مثل الاقتصاد الأمريكي والاقتصادات الأوروبية، إلى سكة النمو من جديد وإن كان نمواً متواضعاً .

بيد أن هذه الحزم المالية الإنقاذية قد خلقت من جهة أخرى مشكلة لا تقل خطراً عن خطر الركود الاقتصادي، وهي مشكلة الديون السيادية أي المستحقة على حكومات هذه البلدان، خصوصاً مع كل اقتراب لمواعيد استحقاقها .

فكان لابد والحال هذه من أن تفرض سياسة التقشف نفسها بديلاً لسياسة التوسع الإنفاقي العجزي (أي المُمَول عجزياً)، فالكونجرس الأمريكي يقر قانوناً لخفض النفقات في الميزانية الفدرالية، وبريطانيا تقرر خفض نفقاتها بحوالي 8 مليارات دولار في الشهور العشرة الأولى من ولاية التحالف الجديد الحاكم الذي يمثله ائتلاف حزبي المحافظين والديمقراطيين الليبراليين، ويقرر مجلس وزرائها في أول اجتماع له منذ إعلان التشكيلة الحكومية الجديدة خفض مرتبات الوزراء بنسبة 5% .

منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) التي تتخذ من باريس مقراً لها والتي تضم الدول الرأسمالية المتقدمة (ومؤخراً بعض الدول ذات الاقتصادات الصاعدة ومنها بالمناسبة ldquo;إسرائيلrdquo; التي تم قبولها قبل أيام عضواً في المنظمة)، تصدر سنوياً تقريرين رئيسيين لتقييم أداء الدول الأعضاء وآفاقها الاقتصادية، وقد جاء في تقريرها الأخير أن على ألمانيا أن تخفض عجز موازنتها المتوقع أن يبلغ نحو 5% من إجمالي ناتجها المحلي أواخر هذا العام بسبب التخفيضات الضريبية التي منحتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مطلع العام الجاري للشركات وأصحاب الرساميل . ويمكن اعتبار شهر مايو 2010 شهر التقشف في أوروبا كلها، حتى مانشيتات وعناوين الأخبار كادت خلاله تتمحور حول أن أوروبا تواجه عصراً من خفض الإنفاق الحكومي .

هل هو تخبط أم ماذا؟ في البدء، ونعني بعد ظهور أولى علامات الانهيار في النظام المالي والمصرفي الأمريكي والأوروبي والياباني بعيد اندلاع الأزمة المالية العالمية، لجأوا إلى سياسات التوسع الإنفاقي الممول عجزياً . والآن وعندما شعروا بوطأة وثقل الديون المترتبة على تلك ''الحقبة التنشيطية''، تحولوا فجأة نحو سياسات انكماشية ذات مفعول معاكس تماماً لمفعول سياسة التوسع . طبعاً هم يدركون أن لهذه السياسة الانكماشية عواقبها ولكن هل كان لديهم خيار آخر غير خيار التقشف الإنمائي؟

كلا بطبيعة الحال، فهذه هي الأدوات التي يوفرها علم الاقتصاد حتى الآن . فالخيار الأول كان اضطرارياً، أملته الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية، وليس هناك غير الدولة من هو مستعد وقادر على القيام بمثل هذه الحملة الضخمة من عمليات تمويل الإنفاق التوسعي لتفادي الركود، فهذا استثمار فيه الكثير من المخاطرة التي يرفض القطاع الخاص تحمل عواقبها . فهو مع مصلحة الاقتصاد الوطني في السراء فقط وليس في الضراء .

ولأن هذه السياسة التمويلية التوسعية تنطوي على فرصة ارتفاع التضخم على المدى القريب والمتوسط (سنة - ثلاث سنوات)، ناهيك عن الخطورة الكبرى الناجمة عن تراكم الديون السيادية واستحقاق سدادها في مواعيدها الحالّة، وإلا تحولت الدولة المُمَولة عجزياً (الولايات المتحدة على سبيل المثال حين ضخت مليارات الدولارات في خزينة مجموعة التأمين الأمريكية ((AIG) لإنقاذها من الإفلاس) هي نفسها تحولت إلى دولة مفلسة كما حدث مع اليونان . الآن وقد فشلت سياسة التوسع التمويلي الإنفاقي هل ستفشل بدورها السياسة المالية الانكماشية المتمثلة في تدابير تقشفية مختلفة تهدف إلى خفض العجوزات في الموازنات وتوفير مزيد من الأموال لسداد الديون السيادية؟

فرص النجاح هنا تكاد تتساوى مع فرص نجاح سياسة التوسع التمويلي العجزي، مع توفر هامش أكبر في السياسة الانكماشية، كمفاضلة، توفره أسعار الصرف المنخفضة للبلدان المتقشفة (سعر صرف اليورو مقابل العملات العالمية مثلاً) يمكن أن يحدث نوعاً من التوازن بين النمو (من خلال نمو الصادرات) المكبوح بسياسة التقشف وبين تحقيق هدف خفض العجوزات والديون السيادية . بيد أن الأمر سوف يحتاج إلى أكثر من هامش فروقات أسعار الصرف، يحتاج إلى سياسات اقتصادية كلية عالمية أكثر توازناً بين دول الفائض الاقتصادي ودول العجز . وهذا هدف بعيد المنال، فالدول التي كسبت مواقع جديدة في اقتصاد السوق المفتوحة لن تفرط ببساطة في مكتسباتها هذه .