بلال الحسن
انتدبت الولايات المتحدة الأميركية نفسها، لتكون القائدة لعملية التسوية السياسية بين الفلسطينيين وإسرائيل. وهي بالإضافة إلى صفتها هذه، الدولة العظمى الأكبر في العالم، حيث يفترض أن تكون كلمتها هي النافذة في كل أمر، وبخاصة مع حلفائها، وبشكل أخص مع حليفتها المدللة إسرائيل. ولكن ما نشهده يوميا وبأم العين، كيف أن الدولة العظمى القائدة تتصرف على غرار أي مندوب مغلوب على أمره، بحيث بات مستحيلا علينا أن نرى في هذا المندوب ممثلا لتلك الدولة العظمى، حيث يستطيع أي موظف إسرائيلي صغير مثلا، أن يقول لهذا المندوب الكبير: قف عند حدك، لا تتجاوز ما نقوله لك.
جورج ميتشل، مندوب الرئيس الأميركي أوباما لإدارة مفاوضات التسوية مع الإسرائيليين، هو نموذج حي لهذه الصورة الكاريكاتورية. يأتي مندوب الدولة العظمى بكل هيبته، ويبلغنا سلفا أنه محبط من عدم تجاوب بنيامين نتنياهو مع طلباته. وحين يصاب هذا المندوب المهيب بالإحباط، تنتهي اللعبة، ولا يعود بمقدور أحد من المتفاوضين أن يفعل شيئا. ومع أن ميتشل رجل طاعن في السن، فإننا شهدناه مع بدء مهمته حيويا ونشطا، أما في جولاته الأخيرة، فقد شاهدناه يتحرك ببطء، وبتؤدة، محني الظهر، يقول مظهره قبل تصريحاته، إنه مندوب محبط ولا يستطيع أن يعد بشيء. إنه يستمع إلى شروط من نتنياهو يجب أن تتحقق قبل أن يأذن بتطوير المفاوضات، ثم يستمع إلى طلبات من الرئيس محمود عباس حتى يتمكن من الموافقة على الانتقال من المفاوضات غير المباشرة إلى المفاوضات المباشرة، ولا يملك إزاء تعارض المطالب إلا أن يضرب كفا بكف، ثم يعلن أنه سيعود إلى واشنطن لإبلاغ رئيسه بفشله، وتنتهي بذلك جولة من جولات المفاوضات، تليها بعد أسبوعين جولة أخرى.. وهكذا. وقد اعتدنا على وصف المفاوضات الفلسطينية مع إسرائيل بالعبثية، ولكن العبثية الحقيقية هي طريقة الدولة الأعظم، في إدارة وساطاتها.
ثمة مظهر عبثي آخر، يدور مباشرة بين المفاوض الفلسطيني والمفاوض الإسرائيلي. وهنا تم الإعلان أن إيهود باراك وزير دفاع إسرائيل سيلتقي مع سلام فياض رئيس وزراء رام الله. وحين ندقق في جدول الأعمال بين الرجلين نرى عجبا. فهناك بند أساسي في جدول الأعمال يصر سلام فياض على طرحه، وهو ضرورة رفع الحصار الإسرائيلي عن غزة بالكامل. وهذه نقطة إيجابية تسجل لسلام فياض، وإن كانت مشروطة برفع الحصار على قاعدة اتفاقية عام 2005 حول المعابر. وهذا يعني ثلاثة أمور تثير جدلا صاخبا، الأمر الأول: أن يكون حرس الرئاسة الفلسطينية هو المسيطر على المعابر (لضمان إبعاد حركة حماس التي تمسك بالسلطة في غزة). الأمر الثاني: أن تكون إسرائيل موجودة في إدارة المعابر عبر كاميرات المراقبة. الأمر الثالث: أن تكون المعابر كلها تحت إشراف أوروبي. وإذا تغاضينا عن هذه المسائل كلها، فسنجد أنفسنا أمام مجموعة أخرى من المطالب، يضعها سلام فياض (مشكورا) أمام المفاوض الإسرائيلي، وهي كما يلي:
1) وقف الاجتياحات العسكرية الإسرائيلية لمدن الضفة الغربية.
2) السماح للأمن الفلسطيني بالوجود خارج المدن الفلسطينية. أي أن ينتقل من المنطقة laquo;ألفraquo; إلى المنطقة laquo;بraquo;، وهو أمر ترفضه إسرائيل، رغم أن الصحف الإسرائيلية أصبحت مليئة بالمقالات التي تمتدح الأمن الفلسطيني لدوره البارز، كما يقولون بكلمات إسرائيلية، في مواجهة laquo;الإرهابraquo; الفلسطيني. وهو ما يعني بكلمات فلسطينية، مواجهة العمل المقاوم للاحتلال وضربه في مهده.
3) وقف الاستيطان، وبخاصة في القدس، ووقف مخطط تفريغ القدس من ساكنيها (هدم البيوت، طرد السكان، طرد أهالي غزة).
4) رفع الحواجز الإسرائيلية التي تقارب الـ400 حاجز، حتى تستطيع السلطة الفلسطينية أن تمد مؤسساتها إلى خارج المدن، حسب تعبير فياض.
تبرز هذه النقاط مطالب سلام فياض من إيهود باراك، ولكنها تبرز أكثر حقيقة فاقعة اللون، لا يتحدث عنها أحد، وهي حصار إسرائيل المفروض على الضفة الغربية. إنه، وكما يظهر من هذه النقاط، حصار لا يقل قسوة عن حصار غزة، والغريب أن الكل أصبح يطالب برفع الحصار عن غزة، ولكن لا أحد يطالب برفع الحصار عن الضفة الغربية. ويفعل سلام فياض حسنا، إذا هو قال إن جدول أعماله مع إيهود باراك لن يتناول النقاط الأربع المذكورة، بل سيتناول نقطة واحدة فقط، هي رفع الحصار الإسرائيلي عن الضفة الغربية.
ولكن المعضلة هنا، أن رفع هذا الشعار، قد يستدرج قوافل تضامن عالمي مع الضفة الغربية، وبما أن الضفة الغربية لا سواحل لها، فإن التضامن معها لن يكون بواسطة الأساطيل البحرية، بل هو يحتاج إلى أساطيل برية، تمر عبر الدول حيث لا وجود لمياه دولية، وهو أمر يثير كثيرا من الإشكالات، ويجعل معركة إنقاذ الضفة الغربية من الحصار أكبر بكثير من معركة إنقاذ غزة.
وبينما تكاد تتلاشى فرص النجاح في مهمة ميتشل، وفي مفاوضات فياض - باراك، نجد إسرائيل نشطة على صعد أخرى، تتجاوز الحكومة إلى الإدارات والأحزاب. فنحن نستطيع أن نسجل ثلاثة قرارات إسرائيلية صدرت مؤخرا، ولها دلالاتها الخطيرة.
أولا: الأمر العسكري رقم 1650، الذي أعلن عن العمل على طرد أي مواطن من قطاع غزة يقيم في الضفة الغربية. وتباشر إسرائيل الآن تنفيذ هذا القرار، حيث بلغ عدد المبعدين أكثر من ألف شخص.
ثانيا: قرار حزب الليكود (أو ما يسمى مركز الليكود)، وهو الحزب الحاكم في إسرائيل، بضرورة استئناف العمليات الاستيطانية في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، أي في موعد انتهاء التجميد المؤقت للاستيطان، الذي اتفق عليه نتنياهو laquo;سراraquo; مع أوباما.
ثالثا: إقدام بلدية القدس على وضع أوسع خارطة هيكلية للمدينة، وهو أمر لم يتم منذ خمسين عاما. تشكل هذه القرارات الثلاثة نوعا من البنية التحتية للقرارات السياسية التي نشهد تطبيقها بين ميتشل ونتنياهو، وبين ميتشل ومحمود عباس، وبين سلام فياض وإيهود باراك. وهي ترجمة عملية لتحدي مندوب الدولة الصغرى، لموفد الدولة العظمى. ومطلوب منا أن نصدق، كفلسطينيين وكعرب، أن الدولة العظمى لا تملك إلا أن ترضخ لمطالب الدولة الصغرى.
أو مطلوب منا أن نصدق، أن واشنطن تدير وساطتها بديمقراطية كاملة، ومن دون أي ضغط على أي طرف.
ولكن الديمقراطية الأميركية، لا تمانع في فرض شروط الرباعية، أو في فرض شروط المصالحة الفلسطينية، على أي طرف آخر.
التعليقات