عبدالحسين شعبان


منذ ثلاثة عقود ونيّف من الزمان وأفغانستان تلعب دوراً عالمياً كبيراً لا باعتبارها بلداً محتلاً وحسب، بل في تحديد وتعديل وإعادة النظر في الاستراتيجيات العالمية، فبعد عشر سنوات من الاحتلال السوفييتي، جاءت اللحظة الفارقة حين قرر غورباتشوف في فبراير عام 1989 وفي إطار ما سمّي بسياسة الوفاق سحب آخر جندي سوفييتي منها، يومها حمل شيفرنادزا رسالة إلى إسلام آباد ومنها إلى حليفتها واشنطن، وكان يأمل إقناع بناظير بوتو بتقاسم السلطة، وإلاّ فإن العنف سينفجر إلى حدود لا يمكن توقعها، خصوصاً وأن الرئيس الأفغاني محمد نجيب الله لا يقوى على الاستمرار في السلطة.
وكان الانسحاب السوفييتي المفاجئ وعدم التفاهم على تسوية سياسية، بسبب التعنت الباكستاني- الغربي وعدم اتفاق القوى الأفغانية أيضاً، قد أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية وتدمير كابل وصعود نجم طالبان، حيث تمّ توفير ملاذ آمن لتنظيمات القاعدة التي ارتفع رصيدها منذ ذلك الوقت، خصوصاً ارتباطها مع اسمَيْ أسامة بن لادن والظواهري، اللذين أصبح لهما كاريزما خاصة على صعيد التنظيم السري والعمل السياسي والعسكري.
اليوم بعد مرور ما يزيد على عقدين من تلك اللحظة التاريخية المؤثرة وتداعياتها الاشتراكية والعالمية، عادت طالبان إلى الواجهة وأدركت الولايات المتحدة إلى حدود غير قليلة، مثلما أدرك الاتحاد السوفييتي السابق من قبل، أنه لا يمكن تحطيم تنظيمات laquo;المجاهدينraquo; والقضاء على الحركة الرافضة للوجود العسكري السوفييتي أو الأميركي، سواءً جاء بمبررات طلب من حكومة أفغانستان laquo;الثوريةraquo; في حينها أو بناء على قرار لقوات التحالف بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية في الولايات المتحدة في عام 2001.
ها هي طالبان تشكّل أكثر من مفاجأة، فهي ليست منظمة مطاردة أو laquo;منبوذةraquo;، بل تبسط نفوذها على مناطق واسعة في غرب البلاد وشمالها وطولها وعرضها ولديها ملاذات آمنة في باكستان، وترتفع يوماً بعد آخر خسائر القوات المحتلة لاسيَّما خلال عام 2009، فما الذي سيفعله الرئيس أوباما.. هل سيكرر ما فعله غورباتشوف؟ أي الهروب إلى الأمام والانسحاب دون تسوية سياسية، خصوصاً وقد حدد 18 شهراً للانسحاب، حيث ظلت الولايات المتحدة منذ إسقاط نظام طالبان في عام 2002 بلا نصر عسكري كبير ومنظور، وحرب الاستنزاف تزداد ثقلاً، بل إن البلاد تعيش في حرب مفتوحة منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان دون أمل في وضع حد لها حتى الآن.
لقد اخترقت طالبان بعض قطاعات الجيش والشرطة الأفغانية، فكيف ستقوم الولايات المتحدة بتسليمها إلى الحكومة الأفغانية بقيادة الرئيس حامد كرزاي بحلول شهر يوليو من العام القادم 2011؟ ولعل تَوّسع نفوذ طالبان وانحسار نفوذ الحكومة والقوات المحتلة بما فيها قوات حلف الناتو، هو الذي دفع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى إبلاغ مجلس الأمن بأن أفغانستان تمرّ في لحظة فارقة، خصوصاً أن الوضع قد يصبح غير قابل للتعديل.
ربما فكّر الرئيس أوباما وقبل الوصول إلى لحظة اللا عودة في استمالة بعض مقاتلي وقيادات طالبان ميدانياً، لاسيَّما بعد تحقيق بعض النجاحات وذلك بجلب قوات جديدة إلى أفغانستان، أي أن يتم التفاوض مع حركة طالبان بعد إضعافها قدر الإمكان، ويحتفظ قائد القوات الأميركية وقوات الناتو الجنرال ستانلي ماكريستال (الذي تنحى من موقعه قبل أيام) بميزانية خاصة لتحقيق هذا الهدف، وتقدر الأموال التي تمّ وضعها تحت تصرفه بمليار ونصف المليار دولار لتوزيعها على بعض قيادات طالبان وجعلها مثل الحوافز على التعاون، لاسيَّما مع من يبدي استعداده لإلقاء السلاح.
صحيح أن السطوة العسكرية لا تزال بيد القوات الأميركية وقوات الناتو، لاسيَّما في المراكز الرئيسة والتجمعات السكانية، لكن ذلك لا يعني عدم وجود نفوذ مؤثّر لطالبان، التي لديها حكومات ظل في 33 مقاطعة من 34 وتحتفظ بعلاقات خاصة مع قوى عشائرية وجهوية متنوعة.
وبقدر عدم تمكن طالبان من حسم المعركة لصالحها، فإنه في الوقت نفسه ليس من السهولة بمكان إحراز نصر سريع للقوات العسكرية الأميركية أو إعلان هزيمة تنظيمات القاعدة كلياً أو إنهاء حركة طالبان.
ولعل هذا الوضع يثير تباينات واختلافات في داخل الإدارة الأميركية التي تبدو منقسمة حتى الآن، بشأن ترجيح أحد الخيارات المطروحة، فالحوار مع زعامات طالبان لا يوفر قناعات مشتركة وموحدة بالنسبة لوزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية CIA وإدارة أوباما في البيت الأبيض، إذ أن كلاً من هذه المراكز لديه رؤية خاصة حول موضوع الحوار مع طالبان.
ورغم أن الموقف لدى طالبان ليس موحداً هو الآخر، لكن بعض الإشارات المرنة وردت على لسان الملا عمر زعيم طالبان، وبخاصة خلال أحد الاحتفالات الدينية في شهر نوفمبر 2009، وفي الوقت الذي شدد فيه على استمرار الجهاد ضد العدو، فقد أكد أيضاً أن نظام الحكم بقيادة طالبان في المستقبل سوف يحقق السلام ولن يتدخل بالشؤون الداخلية للدول المجاورة وذلك في تلميح صريح إلى عدم عودة تنظيمات القاعدة إلى أفغانستان، وبعد إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما الانسحاب من أفغانستان بنحو أسبوع ردّت حركة طالبان على استعدادها لتوفير ضمانات قانونية إذا انسحبت القوات الأجنبية من أفغانستان، وهو ما فسرّه المراقبون تغييراً في لهجة طالبان، التي لم تذكر الجهاد أو تطبيق الشريعة الإسلامية، وقد يكون ذلك من نتائج المفاوضات السرية التي قيل إنها تمت تحت رعاية المملكة العربية السعودية، وبطلب من رئيس حكومة أفغانستان كرازاي، وبمشاركة أعضاء سابقين من حركة طالبان.
لكن مثل هذا التطور وإن لم يكتمل أو تتضح معالمه، فإنه كان وراء سبب جديد في فتور العلاقة بين واشنطن وإسلام آباد، التي توترت في الفترة الأخيرة، لاسيَّما مطالبة الأولى بالتصدي لزعامات طالبان الباكستانية، وهو الأمر المزدوج والذي يبدو متناقضاً، إلاّ من وجهة النظر الباكستانية، التي لا تريد فتح معركة مع طالبان الباكستانية من جهة، خصوصاً وهي مثقلة بمشاكل داخلية لا حصر لها، ومن جهة ثانية فإنها قد تنظر إليها باعتبارها حليفة للمستقبل، ولاسيَّما أن طالبان الأفغانية قد عززت مواقعها، الأمر الذي قد يجعلها قريبة من الوصول إلى السلطة في المستقبل، وذلك في إطار التخادم الآني والمستقبلي وتبادل المصالح.
إن باكستان وهي تتخذ مثل هذه المواقف تدرك حقيقة النفوذ الفعلي لحركة طالبان في أفغانستان، كما تدرك أيضاً مأزق القوات المحتلة، التي قد تضطر إلى الانسحاب سريعاً تاركة الجيوبوليتيك الأفغاني- الباكستاني هو الذي يحدد طبيعة ومستقبل العلاقة، لذلك لا تريد أن تتورط في عمل غير مدروس أو مغامرة قد تدفع ثمنها باهظاً في وقت لاحق، وقد لا يكون بعيداً رغم ضغوطات بعض العسكريين الباكستانيين.
وبقدر حساسية بعض العسكريين الباكستانيين، فإن حساسية بعض قيادات طالبان كبيرة جداً، خصوصاً وقد عانت لمدة طويلة من تلاعب الاستخبارات الباكستانية، لاسيَّما التدخل في شؤونها الخاصة أو ادعاء المعرفة التفصيلية بأوضاعها، وحتى تمثيلها في بعض المباحثات مع القوى الكبرى، ولذلك فإن بعض قيادات طالبان تفكر بتسوية على أساس الاعتراف بدورها خارج الهيمنة الباكستانية، لاسيَّما من القبائل غير الباشتونية في الشمال، الذين يعادون طالبان وباكستان في آن واحد.
وقد يكون لباكستان سبب جيوبوليتيكي آخر هو الحذر إزاء التطويق الهندي، الأمر الذي يتطلب تعاوناً فعّالاً لدرء أية احتمالات سلبية، كما حدث في عام 2001، وهذا يتطلب إعادة قراءة مستمرة لإستراتيجية واشنطن واحتمالات تبدلاتها السريعة، بما فيها الملف الإيراني وانعكاساته أفغانياً.
حتى الآن وما لم تعلن واشنطن سياسة واضحة إزاء مستقبل أفغانستان، فقد تبقى طالبان تحت الأرض لمدة 18 شهراً أخرى، حتى تحين اللحظة الفارقة التي تنتظرها بالانسحاب الأميركي فتتحرك للقضاء على حكومة كابل كما حدث بعد الانسحاب السوفييتي، وهكذا فإن ظلال غورباتشوف قد تبدو في صورة أوباما الأفغانية.