خليل علي حيدر


فتح الشعراوي-يرحمه الله- أمام جيل كامل من الدعاة في مصر ودول الخليج وغيرها، مجالاً بكراً شديد التأثير في الجماهير وملائم للإعلام المسموع والمقروء في مجتمعات تعاني من الأمية الأبجدية والثقافية العامة على حد سواء. هذا المجال هو الحديث والوعظ quot;باللهجة العاميةquot; التي بدأت مع الشعراوي ومن تبعه من الدعاة ولا يزالون باللهجة المصرية، ثم دخل الميدان نفسه مع بعض الخليجيين. ولا يهمنا في هذا المقام إن كان الشعراوي مسبوقاً في هذا المجال أم لا، فالواقع أن نشاطه الدعوي والتفسيري، مستخدماً هذه الأداة اللغوية الشعبية، وسعة انتشار نتاجه الديني والإعلامي قد خلق منه مَعْلَماً ورمزاً تاريخياً في هذا المجال. واعتماد الشعراوي على quot;العاميةquot; في الوعظ الديني في مصر ظاهرة تستحق التوقف لثلاثة أسباب.

الأول: الارتباط الشديد والبديهي بين العربية الفصحى والدين الإسلامي، إذ درج الفقهاء والوعاظ وشيوخ الدين، بل والبارزون من أعضاء الجماعات الإسلامية على التحدث إما بالفصحى أو بما هو قريب منها. ومن وصايا البنا مؤسس جماعة quot;الإخوانquot;، دعوته أعضاء الجماعة قائلاً: quot;اجتهد أن تتكلم العربية الفصحى، فإن ذلك من شعائر الإسلامquot;.

الثاني: المعركة العريضة التي خاضها التيار الإسلامي في مصر وغيرها على امتداد أكثر من قرن ضد استخدام العامية، فكانت المجلات الإسلامية لا تكف عن توجيه الاهتمام الى خطر الدعوة الى العامية على القرآن والشريعة والعقيدة الإسلامية، وإن استخدام كل قُطر للغته العامية تمزيق لشمل جامعة اللسان. فكانت مجلة quot;المؤيدquot;، عام 1902، تعد التنازل عن اللغة العربية لأي لغة أخرى أو لأي لغة عامية، quot;تنازلاً عن الشخصية الإسلامية، الأمر الذي يؤدي الى تلاشي الأمة ومحوها من صحيفة الوجودquot;.

وكانت تهاجم العامية، وتسميها اللغة الممقوتة quot;التي هي عبارة عن خليط من ألفاظ اللغة العربية، وألفاظ مخترعة لا تُعزى الى لغة ولا تنتسب الى الأصل، حتى أنه ليسوغ للإنسان أن يجحد تسميتها باللغة العربيةquot; (صحافة الاتجاه الإسلامي في مصر، جمال النجار، القاهرة 2000 ص 250).

أما السبب الثالث في الاستغراب من لجوء الشعراوي إلى العامية المصرية على نطاق واسع، فهو كون الداعية نفسه من خريجي كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر عام 1941، بل وعمق معرفته بأسرار اللغة، واعتماد تفسيره للقرآن على المنحى اللغوي.

ومن أبرز ناقدي الشعراوي في اعتماده العامية كواعظ وداعية، جمال البنا، الذي يهاجمه في كتابه quot;تفسير القرآن بين القدامى والمحدثينquot; (دار الشروق، القاهرة 2008).

يقول جمال عن الداعية المعروف: (الشيخ الشعراوي من فرسان الكلمة وquot;الحكيquot;، ولم يعرف عنه تأليف، وما في أيدي الناس من ذلك، سواء أكان تفسيراً أو فتاوى، هو مما نقله أتباعه ومريدوه وما أكثرهم).

ويقول: quot;بدأت شهرة الشيخ مع برنامج quot;نور على نورquot;، وأحس مقدمه الأستاذ أحمد فراج أنه وقع على نجم فأفسح له المجال. وزادت شهرته شيئاً فشيئاً حتى أصبح quot;إمام الدعاةquot; و quot;شيخ المفسرينquot;، وأصبح معجبوه بالملايين.. وأصبحت إذاعاته في رمضان قبيل الغروب تنسي الناس الجوع والعطشquot;.

ويقول إن الشيخ الداعية لم ينل هذه الشهرة من فراغ، كما لا ينقصه الذكاء، وهو فوق ذلك quot;أوتي معرفة دقيقة بنفسية الجماهير، وهو يقدم دروسه القرآنية باللغة العامية رغم معرفته الدقيقة باللغة العربية وأسرارها، ولا يكتفي بالحديث، بل إن كل جسمه يتحدث، فذراعه ورأسه وجسمه يميل بحيث تسهم هذه الحركات والسكنات في التأثير على سامعيه.

إن إلقاء الشعراوي أحاديثه باللهجة العامية أمر له دلالته، ذلك لأنه كان ضليعاً في العربية بوجه خاص، وعندما أتيحت له الجماهير العريضة التي تمثل الشعب المصري بما فيه من أميين وأنصاف متعلمين وغيرهم، فإنه لجأ الى العامية، حتى لا يكون بينه وبينهم حائل الفصحى.. ولإيجاد المشاركة الوجدانية بينه وبينهم.. فإذا أضفنا الى العامية الحركات والسكنات والإشارات ودرجات الصوت، فإنها في النهاية تثمر كسب الجماهير العريضة.

وعن علاقته بحزب quot;الوفدquot; يقول الشعراوي: quot;في سنة 1937 خرج حزب الوفد من الحكم، وأنا كنت وفدياً كطبيعة بلدي. وفي عام 1938 منعونا من الاحتفال بذكرى سعد زغلول.. فذهبنا الى النادي السعدي واحتفلنا بذكرى سعد، لأننا كنا نعتبر ذكرى سعد مدرسة وطنية، نقول فيها ما نريد. وفي هذا الاحتفال قلت قصيدة في مدح سعد، وخليفته النحاس. وعندما بلغ حسن البنا نص القصيدة quot;زعلquot;، وعاتبني على هذه القصيدة، فقلت له: يا شيخ حسن، إذا استعرضنا زعماء البلد اليوم لنرى أقربهم الى منهج الله، حتى نكون بأرواحنا معه، فلن تجد إلا النحاس، فهو رجل طيب لا يدخن سيجارة ولا غيرها. فإن كان لابد أن توالي أحد السياسيين، فلابد أن يكون النحاس هو السياسي الذي تواليهquot;.

وهنا تلقى الشعراوي الجواب - الصدمة! إذ كان فيما يبدو مؤمناً بأن ما يرفعه الإخوان من شعارات quot;الحياد السياسيquot;، وquot;عدم الاكتراث بالوصول الى السلطة والنفوذquot;، تحدد سياستهم العلنية والسرية، وأن quot;طيبة النحاسquot;، وquot;قربه من منهج اللهquot; تشفع له!

يقول الشعراوي: quot;حينئذ قال الشيخ البنا: وهو، أي النحاس، أعدى أعدائنا.. لأن له ركيزة في الشعب... وهو الوحيد الذي يستطيع أن يضايقناquot;. quot;ومن هناquot;، يقول الشعراوي، فانظر بنفسك أيها القارئ، كيف تغلبت الاعتبارات الحزبية والسياسية لدى البنا على سائر الاعتبارات الدينية. فغاية الصعود والانفراد بالساحة تتحكم بالعلاقات... والغاية تبرر الوسيلة!

وقد استمرت هذه quot;الميكيافيليةquot; أو ما يماثلها لدى جماعة quot;الإخوانquot; ولا تزال. وفي ثمانينيات القرن الماضي كتب سعيد حوَّى، زعيم ومفكر الإخوان الجهاديين في سوريا، منتقداً جماعته من الإخوان السوريين بسبب تأثرهم quot;بالرواسب الجاهليةquot;، بدليل quot;رغبتنا في استعمال طريق الخصوم في العمل العام: نشر الشائعات الكاذبة، الحرص على أصوات الناخبين على حساب الدعوة والعقيدة، الاستبداد في الرأي، المناورات السياسية داخل الجماعةquot; (المدخل الى دعوة الإخوان المسلمين، سعيد حوَّى، القاهرة: مكتبة وهبة 1984، ص 120 - 121).

ونعود إلى جمال البنا، لنسمعه يواصل ملاحظاته على الشعراوي،

ومن الفتاوى التي ابتعد فيها الشعراوي عن روح الإسلام ومقاصده، يضيف البنا quot;فتواه بعدم إباحة التوصية بأعضاء من جسم الإنسان بعد وفاته، أو خلال حياته، ليفيد بها آخرين، كنقل الكلية إلى مريض مصاب بفشل كلوي أو التبرع بالعينين بعد الموت... إلخ. وبين الشيخ فتواه تلك على أساس أن جسم الإنسان ليس ملكه، وبالتالي ليس من حقه التصرف فيه.

ومن ملاحظات جمال البنا على الشعراوي تأثيره على quot;الفنانات التائباتquot;، كما يُسمين في الإعلام.. فيقول البنا: quot;وقد أدى نفوذه الشعبي بكوكبة من ألمع بطلات التمثيل والغناء ومختلف الفنون، بأن يعتزلن وأن ينزوين في بيوتهن أو يجتمعن للصلاة في المساجد وإلقاء الدروس أو الاستماع إليها.