عبد الاله بلقزيز

يقوم من وقائع التاريخ العربي الإسلامي دليل على أن معنى حضارياً للعروبة نشأ وتطور ورسخ في لحظة التألق الكبرى التي شهدها اجتماعهم الإنساني . وأخص تلك المعاني وضوحاً واستتباباً ما تعلق برفض حمل معنى العروبة على العِرق والدم . وإذا كان بعض الإمعان في تظهير الماهيات العصبوية والتفاخر بالأنساب وإعلاء الأنا الإثنية حصل في لحظات من التاريخ معلومة وأدخل معنى الانتماء العربي إلى نفق التعيين العرقي، فلم يكن ذلك من العرب غير رد فعل على ما أصابهم من قدح جماعات قومية أخرى سرعان ما انتهى مفعوله بانتهاء الأسباب الحاملة عليه .

لسنا نشك في أن لهذا الانصراف عن التمسك بالرابطة العرقية عوامل دينية تأسيسية . فلقد تشبع العرب بتعليم قرآني يمج روابط الدم ويحض على الارتفاع عنها إلى معنى جديد للجماعة . كما أنهم تشبعوا بشعور الإشباع الذاتي حين حملوا الرسالة إلى العالم وفتحوا آفاقه أمامها فباتت جماعتهم أكثر عدداً وأوسع نطاقاً من الجماعة الإثنية الأصل . ولقد مر على أبناء تلك العهود حين طويل من الدهر كان فيه المسلمون كافة عرباً بالثقافة والحضارة، ما شعر فيه المستعرب بغربة في مجتمع نبيه عربي وقرآنه عربي ولسانه كذلك . وما كان الصدام بين الجماعات المكونة للاجتماع العربي الإسلامي يحصل على حدود الماهيات العرقية إلا حين ينصرف المتصارعون عن الدرس القرآني حول الجماعة والتوحيد فتأخذهم حبائل العصبية إلى أقفاص الماهيات المغلقة . وإذ كان لتعاليم القرآن الكريم عظيم أثر في حمل العرب على استبطان هذا المضمون المنفتح للجماعة والأمة وفيض نطاقه عن روابط الدم والعرق، كان للتجربة الحضارية الكبرى في رحاب الإسلام سهم كبير الشأن في صناعة ذلك المضمون وترسيخه . فلقد شاهد العرب غير العرب يشاركونهم في الفتح فيأخذون رسالة الإسلام إلى الآفاق وينشرونها في الناس، ويشاركونهم الحديث باللسان والكتابة به والترجمة والنقل إليه . ثم شاهد العرب غير العرب يشاركونهم تعريب الأمم والأمصار المفتوحة ومدافعة لسان العرب بحسبانه لسان القرآن والدين وإطلاق الأسماء العربية على الأبناء والأحفاد، بل والاحتفال بآداب العرب قبل الإسلام وعدها في جملة تراث الأمة الذي يحسن بها أن تتفاخر به . وبالجملة، ما كان انتشار هذا المعنى المنفتح للعروبة وترسخه من ثمار جهد قام به العرب حصراً، وإنما من آثار شعوب أخرى أسلمت وتعربت فارتضت العروبة ماهية لها بشكل حر وطوعي ولا إرغام فيه ولا إكراه .

ولقد يكون من الأسباب الحاملة غير العرب على التمسك بالعروبة ثقافة ولساناً وشعوراً عميقاً بالانتماء أنهم ما رأوا من العرب الفاتحين ميلاً إلى فرض اعتناق الإسلام على من يدينون بغيره من العقائد، ولا ميلاً إلى فرض التعريب قسرياً على البلاد المفتوحة . والحق إن هذه الخصلة ظلت فضيلة في العرب والإسلام ومنحتهما قوة أخلاقية (هي التي) تفسر لماذا انتشر الإسلام والعربية بذلك اليسر الذي بهما انتشر في زمن قياسي . فأكثر من أسلموا من غير العرب، وأكثر من تعربوا، إنما أسلموا وتعربوا لدوافع ذاتية شتى: الإيمان، الرغبة في الاندماج، الطموح إلى دور . ولم يكن للدولة دور في هذه العملية، بل إن دور الهجرات والاختلاط السكاني فيها كان أعظم .

وبمقدار ما كان التسامح مع غير المسلمين وغير العرب فعلاً أسس لتلك العملية العميقة من التعريب واتساع نطاق المعتنقين لدعوة الإسلام، بمقدار ما أسس لعلاقة حضارية بين الجماعة الإسلامية الكبرى في المجتمع العربي والجماعات الدينية المخالفة من جهة، ثم بين الجماعة العربية الكبرى في المجتمع الإسلامي والجماعات الإثنية الأخرى الشريكة في حضارة الإسلام من جهة ثانية . فلقد وفر ذلك التسامح أسساً متينة لحفظ الذاتية الدينية والثقافية واللغوية للجماعات الأخرى غير الإسلامية (نصارى، يهود، مجوس، زرادوشت، وثنيين . . .) وغير العربية (فرس، ترك، هنود، أفغان، أوزبك، أذريين، زنوج، كرد، بربر . . .) داخل إطار الإمبراطورية العربية الإسلامية .

العروبة هي الثمرة الموضوعية لذلك الانصهار الثقافي والاجتماعي والديني الذي حصل في إطار التجربة التاريخية للإسلام .

على أن قلة عدد العرب في دولة الإسلام لم تمنع ثقافتهم ولسانهم من أن يكونا ثقافة ولسان أغلب الجماعات الأخرى . ولم يكن ذلك بسبب قوتهم السياسية فلقد فقدوا السلطة مبكراً وإنما لأن غيرهم ارتضى الثقافة واللسان ذيناك . ولقد كان لهذين أثر في إعادة صوغ معنى العروبة كرابطة غير دموية .