عثمان ميرغني

في مقابلة مع صحيفة laquo;كورييري ديلا سيراraquo; الإيطالية الأسبوع الماضي وجه الرئيس الأميركي باراك أوباما اللوم إلى الاتحاد الأوروبي على أساس أن إحجامه عن قبول عضوية تركيا جعلها تبحث عن تحالفات خارج الغرب. وقال للصحيفة: إن الولايات المتحدة تعتقد أنه سيكون من الحكمة للاتحاد الأوروبي أن يقبل عضوية تركيا.

وكرر أوباما ما كان قد أشار إليه في السابق وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس من أن الصد الأوروبي سيلعب دورا في نظرة الشعب التركي لأوروبا laquo;وفي السلوك التركيraquo;، قائلا: laquo;إذا لم يشعروا (الأتراك) بأنهم جزء من العائلة الأوروبية، فمن الطبيعي أن ينتهي بهم المطاف إلى البحث عن تحالفات أو انتماءات في أماكن أخرىraquo;.

وليس صعبا فهم ما يرمي إليه الرئيس الأميركي بالإشارة إلى laquo;انتماءات في أماكن أخرىraquo;، فواشنطن ترى في تركيا حليفا مهما ودولة تتمتع بالكثير من عناصر القوة بما في ذلك موقعها الاستراتيجي. ولذلك تريدها في خانة المعسكر الغربي، بدلا من التوجه بعلاقاتها وأنظارها نحو محيطها الإقليمي الآخر، العربي أو الإيراني. كما أن واشنطن تشجع كلا من تركيا وإسرائيل على تجاوز الأزمة بينهما وإصلاح العلاقات المتردية حتى قبل الهجوم الإسرائيلي على laquo;أسطول الحريةraquo;.

أميركا ليست وحدها في محاولة جر تركيا بعيدا عن المنطقة وهمومها، بل إن بعض الأطراف الأوروبية بدأت أيضا تكرر كلاما شبيها، وتدعو إلى احتواء أنقرة داخل البيت الأوروبي. فوزير الخارجية الإيطالي مثلا قال إن الاتحاد الأوروبي laquo;ارتكب خطأ دفع تركيا إلى الشرق بدل جذبها إليناraquo;. وإسرائيل من جانبها تحاول احتواء الأزمة مع تركيا وترميم العلاقات بعد أن علت أصوات كثيرة فيها تحذر نتنياهو من خسارة الحلف مع أنقرة وجعلها تقع laquo;في أحضان العرب وإيرانraquo;.

في الجانب المقابل ماذا فعل العالم العربي إزاء توجهات تركيا نحو المنطقة؟

بدلا من استثمار الدور التركي الجديد والترحيب بالتغيير في السياسة التركية، ارتفعت أصوات كثيرة تشكك في توجهات أنقرة، وبدأ البعض يتحدث عن محاولات إعادة laquo;النفوذ العثمانيraquo; وكأن العالم العربي لم يتغير وعجلة التاريخ لم تتحرك، بحيث إن أي استدارة تركية، وأي تحرك في اتجاه الاهتمام بقضايا المنطقة سيعني عودة laquo;الخلافة العثمانيةraquo; وفرض هيمنة تركية.

كثيرون قالوا إن تركيا تستخدم قضايا المنطقة دعما لمصالحها، ولكي توجه رسالة للأوروبيين مفادها: laquo;إنكم عندما تواجهوننا بالصد، فإننا سنتجه شرقا، وبشكل قد لا يعجبكمraquo;. ولكن حتى إذا كان هذا الأمر صحيحا، فما الذي يمنعنا من الاستفادة من التوجهات التركية الحالية عندما تلتقي المصالح، فالعلاقات الدولية كلها تقوم على مبدأ المصالح. وتركيا بلد له مصالحه، وليس مطلوبا منها أن تصبح بلدا عربيا لكي نقبل منها مساندتها للقضية الفلسطينية، أو قيامها بدور لتسليط الضوء على معاناة أهل غزة تحت الحصار. فنحن أساسا اعتبرنا القضية الفلسطينية قضية عربية وإسلامية، فكيف نرفض اليوم قيام بلد عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي (يرأسها حاليا البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلي وهو تركي مولود في القاهرة) بدور أو بتحرك إزاء هذه القضية.

إن البعض يبرر ارتيابه في الدور التركي بالقول إن تركيا لديها علاقات وثيقة مع إسرائيل، وإن التعاون وثيق بين الطرفين، وإن التوتر الحالي في العلاقات بين الطرفين ظرفي. لكن هذا لا يعني أن ينبري العرب لمساعدة إسرائيل بصد تركيا ودفعها بعيدا لكي تعود إلى الحضن الإسرائيلي. واللافت أن الإسرائيليين يسعون إلى استعادة علاقاتهم الوثيقة مع تركيا على الرغم من أنهم يعتبرون رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أخطر شخصية، ويشنون عليه هجوما عنيفا، ويتهمونه بالتحريض والكراهية، فهل نلتقي معهم في الهجوم على الرجل والتشكيك في دوافعه عندما انسحب من مؤتمر دافوس بعد اشتباك مع الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس، وعندما أثار أزمة مع حكومة نتنياهو بعد الهجوم الإسرائيلي على laquo;أسطول الحريةraquo;؟

الارتياب في بعض الدوائر العربية من التحركات التركية الأخيرة واعتبارها محاولة للهيمنة يبدو مبالغا فيه، لأن تركيا - وإن استدارت جنوبا - لم تتخل عن حلمها وسعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو أمر يضع عليها الكثير من القيود في تحركاتها، ويفرض حتى على حزب العدالة والتنمية الحاكم أن لا يمضي بعيدا في علاقاته الإقليمية سواء مع دول أو منظمات. هذا الأمر يراه أوباما بوضوح، لذلك يدعو الأوروبيين إلى استيعاب تركيا بدلا من تركها تبتعد، ويراه أيضا الإسرائيليون، لذلك يسعون بدعم غربي إلى ترميم علاقاتهم مع أنقرة.

ومن مصلحة العرب أن يستثمروا الانعطافة الحالية في السياسة التركية، واهتمامها بالانخراط في قضايا المنطقة، بدلا من صب الانتقادات عليها، وسد الأبواب في وجهها بالتشكيك في كل خطواتها، ودفعها للبحث عن صداقات في أماكن أخرى. فتركيا تبقى دولة مهمة، واهتمامها بتنمية علاقاتها العربية يساعد في إعادة التوازنات في المنطقة بما يفيد القضايا العربية. فهناك نقاط التقاء كثيرة، ومصالح متبادلة يمكن تعزيزها، لكن المشكلة هي في حساسيتنا الزائدة، وخوفنا المفرط حتى ممن يمد يده دعما لقضايانا.