طيب تيزيني

لعقودٍ مضت كان بعض الكتاب والمثقفين العرب منشغلين بالوضع العربي في ضوء معيار منهجي مبدئي رأوه حاسماً هو ما أطلقوا عليه مصطلح quot;القطر القاعدةquot;. وفي الحقيقة كان الدكتور نديم البيطار، هو الذي طرح هذا الأخير في كتابات وروَّج له في مرحلة اتسمت - ضمن سمات متعددة لها - بكونها مرحلة المشروع القومي العربي. أما موقع ذلك المصطلح والحاجة إليه، فيتحدران مما اعتبره البيطار وضعية استراتيجية عربية تمثل نقطة انطلاق لذلك quot;المشروعquot;. وكان من رأيه أن quot;قطر القاعدةquot; المعْني هذا يتجسد بالكيفية المثلى في العالم العربي بقطر يمتلك ما يصلح أن يكون سنداً ودعماً ومنطلقاً لهذا المشروع، سواء تجلى ذلك في العراق أو مصر أو غيرهما من الأقطار العربية في المغرب كما في المشرق.

وجاءت الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، وقدمت - للوهلة الأولى - ما اعتُبر أدلة على مصداقية استراتيجية quot;قطر القاعدةquot;. بل لعل الأمر كان حقاً كذلك. فمصر صارت قطراً عربياً لا يمكن تجاوزه في حال أراد فريق عربي أو آخر ضمن قطر عربي ما، أن يعقد علاقة مع فريق آخر ضمن قطر عربي آخر. فمن المواقع الاقتصادية والديموغرافية والسياسية والعسكرية كانت مصر تشغل الموقع العربي الأول، مع هيمنة الفريق الناصري هناك على الأصعدة المتعددة. ومع أن فكرة quot;القطر القاعدةquot;، ظهرت بعد إخفاق الوحدة بين مصر وسوريا وتفككها، لم تنشأ حركة فكرية نقدية توجهت نحو هذه الوحدة بحثاً وضبطاً وتقويماً؛ مثلُها - في ذلك - مثل ما حدث في فترة التأسيس لتلك الوحدة: لقد رُفض الحوار حولها، أو كان الجو السياسي الثقافي العام في حينه - ضمن قطاعات مصرية وسورية - يمرّرها دون تساؤلات عمّا إذا كانت توجد شروط ما لعقدها بين القطريْن المعْنيّين! وبالرغم من بروز أصوات تنبه إلى الخطأ القاتل الماثِل في عقدْ الوحدة إياها دون دراسةٍ موضوعية لاستحقاقات أيّة خطوة توحيدية عربية. ولم يملك العرب منذ ذلك الحين، وحتى الآن، رؤية استراتيجية لدولة عربية قادمة: على أساس الوحدة الاندماجية، أو على أساس اتحاد فيدرالي يحرص على الايجابيات هنا وهُناك في إطار quot;حواريquot; بين الخصوصيات والتدقيق في آفاقها التاريخية.

كان ذلك إخفاقاً تاريخياً ذريعاً للمشروع العربي نظرية ومنهجاً، وكذلك واقعاً اقتصادياً وسياسياً. وكانت فكرة quot;القطر القاعدةquot; بدورها قد دللّت خطأها مرتين اثنتين، مرة حين اعتُقد أن المشكلات التي يعاني منها quot;القطر الأضعفquot; يجري تجاوزها بقوة القطر الآخر، القاعدة؛ ومرة حين وافقت القيادة المصرية ومعظم القيادة السورية حينذاك على الدخول في الوحدة الاندماجية بعد إنهاء quot;المجتمع السياسي القائم على التعدديةquot; السياسية والحزبية. لقد اتضح أن البحث المعمّق في خصوصيات الأقطار العربية هو، بالدرجة الأولى، الشرط الذي يفرض نفسه للتحكم بآليات وسياقات العلاقات الجيدة، التي يُراد لها أن تقود إلى نمط من الحكم السياسي في قطرين اثنْين.

والآن، يبدو الأمر الأكثر إثارة وإيلاماً في واقع الحال العربي الراهن، ماثلاً في أن كل قطر عربي يسعى، على حِدة، إلى تأمين اكتفائه الخاص، وهذا هيهات أن يتحقق، ربما على الأقل لسببين اثنين. يقوم أولهما على أن البنية الجيوسياسية والمالية والاقتصادية للعالم العربي تتسم بكونها قائمة على التكامل الوظيفي بين أطرافها المتعددة. أما ثانيهما فيبرز من خلال النظر الأوّلي في إجماع معظم الغرب على إبقاء العرب حيث هم؛ مع إمكانية تحويلهم إلى طرق مرور لمشاريع الآخرين.