محمد بن علي المحمود
حدثني كثير من الأوروبين والأمريكيين ( = الغربيين بصفة عامة ) ؛ فأجمعوا قائلين : كانت أوروبا قبل قرون تعيش في حال تتطابق تماما مع ما تعيشه دول العالم الثالث النامي ( = النائم ) . قالوا : كان الكهنوت في أوروبا يُحكم قبضته الفولاذية التي تتغيا الهيمنة الاجتماعية ، ولم يكن هذا الكهنوت الأوروبي المسيحي يسمح بأي حراك خارج مفاهيمه وتصوراته التي توارثها منذ قرون وقرون . قالوا وهم مغتبطون بما حققوه من تحرر لم يتحقق في أي مكان في العالم : كانت تلك العصور أشبه بجهنم ، أنقذنا الله منها بفضل كفاح أولئك المفكرين العظام الذي بذلوا كل شيء ، حتى أرواحهم ، في سبيل التحرر من عصور الظلام .
كما قيل : وبضدها تتبين الأشياء . فالجماهير الأوربية في العصور الوسطى لم تكن تعي حقيقة انسحاقها ، لم تكن تعي حجم البؤس والشقاء الذي تعيشه ، كانت ترى بؤسها وضعا طبيعيا ، وربما تصورت أنه مُراد الله ، لم تكن حتى تفكر في مستوى الاستغلال الذي يمارسه عليها رجال الدين باسم الدين .
بل الأسوأ من كل ذلك ، أن الأكثرية كانت تعاني من جهل بحالها نتيجة إيديولوجيا التجهيل التي تعمدت تضليلها . وهي ؛ جراء ذلك ، كانت تقدم أعز ما تملك ( = حريتها ) من أجل أن تحظى بمباركة رجال الدين . خاصة وأن رجال الدين يمارسون سياسة : quot; الترويع من أجل التطويع quot; ، أي أنهم كانوا يتلون على الجماهير البائسة في الكنائس أيام الآحاد مواعظ تقشعر منها جلود أولئك البؤساء . فيستغلون ذلك من إجل ربط الناس بهم . كان رجال الدين يضعون أمام الجماهير المؤمنة صورا لعذاب جهنم ( وكأنهم قد زاروا جهنم واطلعوا على تفاصيلها !) ؛ ولسان حالهم يقول : من لم يتبعنا في كل شيء ، ويرضخ لإرادتنا ؛ فهذا سيكون مصيره . يقولون هذا تضمينا ؛ وكأنما كانوا يزعمون أن بيدهم الجنة والنار ، وأنهم الوكلاء الشرعيون لرب العالمين ، تعالى الله عما يزعمون علوا كبيرا .
قد يرى كثيرون أن هذا السلوك التسلطي ، من قبل رجال الدين ، غير طبيعي ، وأنه لم يكن ليحدث ؛ لو كان هناك أدنى ممانعة من عامة الناس . أي أنه جاء نتيجة ضعف المناعة ، وليس نتيجة قوة الهجوم . لا أوافق على هذا ، أنا أراه سلوكا طبيعيا ، خاصة في سياق ظروف كثيرة ومعقدة ، كانت كلها تتضافر لتحقيق هذا الواقع الجهنمي الذي يسحق الإنسان . كل الظروف كانت تصنع هذا الواقع الكهنوتي كواقع طبيعي ، من الجهل ، إلى شهوة التسلط التي تتحكم في سلوك الإنسان البدائي ، مرورا بالمطامع والمنافع التي تتحقق لمن يلتحق بهذا السلك الكهنوتي . والإنسان أسير مخاوفه وأطماعه ! .
الكهنوت الذي تحكّم في أوروبا في القرن الخامس عشر ، لم يكن صناعة هذا القرن ( = الخامس عشر ) لم يكن واقعة نشاز ، بل هو نتاج أكثر من عشرة قرون من البؤس الديني الذي كان يشدد الخناق يوما بعد يوم على رعاياه ؛ حيث كانت كل درجة من الهيمنة تفتح شهية التسلط لما بعدها ، وتضع أمام ضعاف النفوس من العامة طريقا سهلا لتحقيق نوع من التسلط ولو على شرذمة قليلة من البؤساء .
الكهنوت ( هناك ، بعيدا ، في أوروبا عافانا الله وإياكم ) أصبح بُنية تسلط وهيمنة تُغذي نفسها بنفسها . أصبح الكهنوت مؤسسة تسير بقوة الدفع الذاتي ؛ لأنها تمتلك ما يسيل له لعاب المرتزقة والباحثين عن المكانة الاجتماعية في وسط اجتماعي عنصري ونفعي ، لا يقيم للإنسان أي اعتبار ؛ ما لم يكن يأوي إلى ركن شديد ، وأي ركن أشد من ركن رجال الدين آنذاك . لم يكن للفرد أي قيمة من حيث هو إنسان فرد مجرد من الاعتبارات الاجتماعية ، وإنما كانت قيمته تتحدد من حيث وضعه في منظومة الكهنوت أو منظومة الفرسان والنبلاء والإقطاعيين . وكان الكهنوت هو البوابة المتاحة لمحدودي القدرات .
بوابة الكهنوت هي البوابة المتاحة ، بل وهي الأجدى . وللتذكير ، فقد أصبح رجال الدين ( = السلك الكهنوتي ) أعظم نفوذا على المستوى الجماهيري من الإقطاعيين والفرسان بل ومن الملوك الذين لم تكن شرعيتهم تتم إلا بموافقة البابا (= أعلى سلطة دينية في المسيحية ) . بل إن الجماهير البائسة كانت تدرك حقيقة امتلاك رجال الكهنوت لعالمي : الدنيا والآخرة . فإذا كان الإقطاعيون والنبلاء والملوك يستطيعون تحديد مستوى سعادتهم في الدنيا فقط ، فإن رجال الكهنوت يملكون القدرة على تحديد سعادتهم في الدنيا والآخرة ، أي أنهم كما يدعون وصدقهم أولئك البؤساء يملكون آلية تحقيق الرفعة المادية والمعنوية في هذه الدنيا ، كما يملكون القدرة على تطمين الخائفين على مصيرهم الأخروي ، الذي لا يمكن أن يضمنه لهم إلا رجال الدين .
عندما أصبح الكهنوت مراتب ومراقي ، عندما أصبح عطايا ومزايا ، عندما أصبح مباخر ومفاخر ، عندما اصبح أصغر راهب يضمن نعيم الدنيا ، كما يضمن بزعمه نعيم الآخرة ؛ أصبح الإنضواء في هذا السلك هو أمل الجميع . كان الأب يقوم بنذر ابنه أو ابنته للكنيسة ، وكان يضع ابنه ، منذ بداية وعيه ، في سياق حلم كبير وجميل ، حلم قابل للتحقق ، حيث يبدأ صبيا بخدمة الرهبان إلى أن يصبح من قادة الرهبان وأساطين الرهبنة العظام .
في أوروبا آنذاك ، كان الأب يقوم بتوجيه ابنه بالإشارات الملهمة والعبارات الموحية ، كان يشحنه بالطموح ؛ كي ينخرط في السلك الكهنوتي الذي يضمن له العيش الرغيد مع مزيد من الكسل والخبل . ولم يكن الأمر مقصورا عليه كفرد ، بل كان حلم الفرد يتحول إلى حلم عائلة ، وحلم العائلة إلى حلم قرية أو قبيلة . تتوجه طموحات كثيرين ، خاصة محدودي الذكاء ومحدودي القدرة الجسدية ، إلى تحقيق ذواتهم عبر هذا النظام الكهنوتي الذي يضمن لهم ، بمجرد ترديد واجترار بعض الجمل والمحفوظات ، أن يكونوا مؤثرين في مجتمعهم ، بعد أن يضمنوا الرغيف الساخن ، ذلك الرغيف الذي لا يمكن أن ينالوه بذكائهم المحدود وضعفهم المعهود .
البداية تكون في غاية البساطة ؛ وذلك عندما تعي العائلة أو القبيلة وضعها الاجتماعي الدوني ، وفي الوقت نفسه ترى أمامها طريقا ممهدا لتجاوز هذا الوضع الدوني الذي يسحق كرامتها كل يوم . انخراط أحد الأبناء في هذا السلك المقدس ، كان يعني أن هناك أملا واعدا بالخروج من عالم الفقر والقهر والتفاهة والوضاعة إلى عالم الوجاهة والمال والنفوذ . لهذا ، كان مجرد أن يبدي أحد الأبناء ميلا ( أو تمايلا ) للالتحاق بهذا السلك ، يُواجه بتشجيع من كل أفراد النظام الاجتماعي من حوله ، الأقرب فالأقرب . العبارات والابتسمات والنظرات بل والعَبَرات ، تدعمه لينخرط في هذا السلك السلطوي . أمل الفرد يصبح أمل جماعة بأكملها ، وكونه أمل جماعة ، يعني أنه يعزز قيمته كأمل فرد . يدرك الفرد أنه بتحقيق أمل الجماعة يمكن أن يتبوأ مكانة فيها ، بل يمكنه أن يهمين عليها ؛ فتصبح طوع أمره تطوعا من غير إكراه ؛ لأن الجماعة لا تستطيع أن تخذله وإلا خذلت نفسها ، وفرط في جاهها الذي تُقيم عليه كثيرا من الآمال .
يُقال والعهدة على الرواة أن المراهق آنذاك كان يبدأ خطواته بالالتحاق بحلقات الكنيسة التي تتم تحت إشراف رئيسها ، وعندما كان يبدأ بالتشبه برجال الكهنوت ، كان يحظى بالتقدير والاحترام من كل من حوله من البائسين . أما عندما يترقى ؛ فيشارك في موعظة الأحد ، فربما رأيت دموع الفرح تتحدر من عيون أفراد القبلية كلها ابتهاجا برضا الله ورضا الناس !. يقال : كان يمكنك أن ترى الأب منزويا في زاوية من الكنيسة يوم الأحد ، يراقب ابنه وهو يشارك في الموعظة ، بينما كان قلبه يمتلئ بالحبور ويفيض بالسرور ؛ لأنه يرى يد القدر تمتد إليه من خلال هذا الابن ؛ لتنقذه من الفقر المادي ومن الإهمال المعنوي . إنه في تلك الحال ، يتلظى اشتعالا بطموحه الجامح ؛ حتى تصل به أحلامه إلى رؤية ابنه في مقام : سيد الفاتيكان ، وربما ساعده المُحبون في تشكيل معالم هذا الحلم الجميل .
هنا ، نرى أن الكهنوت يصنع قيمته من خلال طبيعة المنتفعين به ومن خلال طبيعة هذا الانتفاع . أي أنه أصبح وجودا وقيمة اجتماعية . هؤلاء الذين تحقق لهم ما لم يحلموا به من خلال هذا السلك الكهنوتي ، لن يسمحوا لأي أحد أن يزعزع أركانه ؛ حتى ولو طمسوا في سبيل ذلك كل تعاليم المسيح . الهوة السحيقة التي تفصل بين ما تُوفره لهم إمكانياتهم العقلية والجسدية ، وبين ما حققه لهم الكهنوت ، تجعلهم يعون حجم الخسارة ؛ إذا ما انهار هذا البناء الكهنوتي . إنهم يدركون أنهم بدون هذا الكهنوت مجرد جوقة من البلهاء البؤساء . وبهذا نرى كيف تحول هذا الكهنوت بالنسبة لهم إلى وجود ، وأن من يحاول المساس به ؛ فإنه يحاول المساس بوجودهم ذاته . إنها تصبح مسألة حياة أو موت ، وليست مجرد خيارات حياة .
إن هؤلاء الذي تغطرسوا من رجال الكهنوت ؛ فنشروا الجهل ولاحقوا المفكرين وأحرقوا العلماء ، لم يكونوا أكثر من مجموعة أفراد انتظم الكهنوت عالمهم بحيث يخدمهم ويخدمونه . لقد كانوا في السياق الطبيعي للتراتبية الاجتماعية آنذاك لا يستطيع الواحد منهم أن يدبر أمر نفسه في قليل ولا كثير ، بينما يصبح بفضل هذا السلك الكهنوتي يصول ويجول ، يقول في كل شأن ، بل يأمر وينهى . هؤلاء سيحاربون إلى آخر رمق من أجل المكتسبات الهائلة ( المعنوية والمادية ) ، وستحارب معهم البنية الاجتماعية المرفقة بهم ، والمنتفعة منهم بأي شكل من الأشكال ، وسيطيعهم ، بل ويتبرك بهم المُغفلون من الدهماء الذين يخدعهم هؤلاء ؛ عندما كانوا يتمظهرون في صورة الأتقياء الأنقياء .
إذن ، هكذا تغوّل الكهنوت ؛ عندما أصبح سلطة مهيمنة ، لها مصالحها الخاصة التي تحارب من أجلها . لقد احتاج الفلاسفة والمفكرون والعلماء أكثر من ثلاثة قرون كي يكشفوا للناس أسرار اللعبة الكهنوتية التي كانت ترهق مشاعرهم وتسرق جيوبهم ، بل ، وأحيانا ، تلهب ظهورهم بالسياط . لقد سقط الكهنوت ، وكان لا بد أن يسقط ، لكن بعد أن سحق ملايين الأبرياء ، سقط ولكن بعد أن خدع كثيرين من السذج . كثيرون ماتوا ومات أولادهم وأحفادهم من بعدهم ؛ دون أن يعلموا أنهم كانوا مجرد أداة يتكسب الآخرون ( = رجال الكهنوت ) من خلالها .
ربما يعتقد بعضنا أن رجال الكهنوت في أوروبا قد اقتنعوا ؛ فاستسلموا ، أو أنهم رضوا بالأمر الواقع الذي لا يمنحهم أكثر من رتبة : واعظ . الحقيقة أنه تم تحييدهم بالقوة من قبل الجماهير ؛ وإلا فأطماعهم في الهيمنة وتسيير حياة الناس ، لا زالت كما هي قبل قرون . ولولا أن الجماهير هناك واعية ، وترفض أن تعود إلى جحيمهم بعد أن خرجت منه ؛ لعاد رجال الكهنوت يُحرقون الفلاسفة والمفكرين والإصلاحيين ؛ ويزعمون للجماهير أن هذا حكم الله . وطبعا ستجد من الأغبياء من يصدقها فيما تقول ، ويذعن لأطماعها ، ويدافع عن فضائحها ؛ لمجرد أنها تتحدث بلسان الدين . وطبعا ، لن يستطيع هؤلاء الأغبياء تصوّر حال أوطانهم ( = أوروبا وأمريكا ) لو أن الكهنوت بقي يحكم وعي الناس وواقعهم ، ولو أن رجال الدين بقوا متنفذين كما كانوا قبل قرون .
التعليقات