جورج سمعان


التطورات التي يعيشها أكثر من بلد عربي هذه الأيام لا تحتاج إلى اجتهادات في البحث عن أسبابها. فالداخلية منها معروفة موروثة أو مستجدة. تحتاج ربما إلى مراقبة الوضع العراقي وما سيؤول إليه شكل الحكومة الجديدة في بغداد. فالمصاعب والعقبات التي تعترض ولادة هذه الحكومة ليست مرتبطة بتعثر التوافق بين العراقيين وكتلهم وكياناتهم السياسية والإثنية والطائفية والمذهبية، وليست رهن طموحات قياداتهم ومصالحهم فحسب. إنها قبل كل شيء مرتبطة بنتيجة الصراع الدولي والإقليمي الدائر في العراق. وهو صراع على الموقع المستقبلي لهذا البلد، وعلى وجهة laquo;الحربraquo; المفتوحة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والجمهورية الإسلامية وحلفائها أيضاً من جهة ثانية على مساحة الشرق الأوسط كله.

ومهما حاول بعض اللاعبين في بغداد، سواء من أهل الداخل أو من أهل الخارج القريب والبعيد التشديد على عدم التدخل في الاتصالات الدائرة لتشكيل الحكومة العراقية، فإن وقائع laquo;الحربraquo; المتصاعدة في المنطقة تؤشر إلى خلاف ذلك تماماً. ومثلها تؤشر الحركة السياسية النشطة في غير مكان وغير بلد. حتى بات يمكن القول، بحسب ما تقول الدعابة الشعبية، laquo;إذا أردت أن تعرف ماذا يجرى في لبنان أو في فلسطين وحتى في اليمن عليك أن تعرف ماذا يجرى في العراقraquo;!

واضح حتى الآن أن الدول التي أقرت في مجلس الأمن الحزمة الجديدة من العقوبات الاقتصادية على طهران لم تكتف بالقرار 1929. بعضها كالولايات المتحدة فرض مزيداً من العقوبات. وبعضها الآخر كالاتحاد الأوروبي يبحث في إقرار المزيد أيضاً. وبعض ثالث كروسيا يمهد الطريق إلى ذلك، من هنا غضبة الرئيس محمود أحمدي نجاد المتجددة على موسكو وما كال ويكيل لها من اتهامات. وتهدف هذه الدول إلى شل قدرة الجمهورية الإسلامية على مواصلة برنامجها النووي أولاً. وتوسيع رقعة المعترضين والمتضررين في إيران على سياسة المحافظين ثانياً. وإضعاف قدرة النظام المالية على توفير الدعم لما يسميه الغرب laquo;الأذرع الإيرانيةraquo; في المنطقة، من المتوسط إلى دجلة والفرات فأفغانستان. وهو يعني كل الحركات التي تقف مع الجمهورية الإسلامية في صف واحد.

أبعد من ذلك، تبدو المواجهة إلى تصاعد. وهي تتوزع توترات سياسية هنا وحرائق هناك. مرفقة بعمل استخباراتي واسع. وهذا على الأقل ما تشير إليه الاتهامات المتبادلة. كأن موعد الانفجار الكبير لم يحن بعد... في انتظار الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي. أو ربما في انتظار نتائج هذه الحرب الباردة. أو ربما لغياب المصلحة والرغبة في حرب واسعة لا قدرة لأي طرف على التحكم بحدودها ومساراتها ومآلها.

وبعيداً من الاتهامات التي وجهتها إيران يميناً وشمالاً في ما يخص عمليات تخريب في برنامجها النووي، وقبل ذلك في ما يخص التفجير الذي شهدته محافظة سيستان بلوشستان، يبدو أن المواجهة لا تقتصرعلى أدوات الشرعية الدولية. فطرفا laquo;الحربraquo; المفتوحة لا يوفران سلاحاً في معركة laquo;عض الأصابعraquo; التي قد تنتهي بحوار متوقع في موضع التخصيب في بلد ثالث، استناداً إلى الاتفاق الإيراني - التركي - البرازيلي. ولكن إلى حين هذا الاستحقاق لا بد من حسم بعض laquo;ملفات الاشتباكraquo; فلا تكون هذه سلاحاً على الطاولة لتعزيز المواقف السياسية أو الابتزاز.

والحكومة العراقية أول الملفات. وواضح حتى الآن أن إيران عجزت عن التوفيق بين الكيانات الشيعية لتستأثر بحصة الأسد في بغداد. ولكن في المقابل لا يبدو أن الولايات المتحدة التي تستعجل التشكيلة الجديدة قادرة على حسم الأمر في بغداد. على رغم الدعم الذي تلقاه من معظم دول الجوار العراقي.

في لبنان، ثاني الملفات، لم يكد موضوع النزاع بين laquo;الأهاليraquo; والقوات الدولية في الجنوب يهدأ، حتى انبعث موضوع المحكمة الدولية مجدداً كمسوغ نزاع أهلي، على وقع تحريض اسرائيلي واضح. وكلاهما موضوعان يعنيان المجتمع الدولي، ومجلس الأمن مباشرة، أو هما على الأقل في نطاق مسؤولية هذا المجلس. فالجمهورية الإسلامية ترد على القرار 1929. وواضح من المواقف الأخيرة للسيد حسن نصر الله، الأمين العام لـ laquo;حزب اللهraquo; أنه يستهدف نسف المحكمة الدولية التي تنظر في جريمة اغتيال رفيق الحريري، أو على الأقل إعاقة عملها والتشكيك في صدقيتها... إذا جاء القرار الظني ليتهم عناصر في الحزب. وهو يستبق، في نظره، محاولة لضرب المقاومة. ويعني ذلك بين ما يعني، اضعافاً للجمهورية الإسلامية التي ترى إلى هذه المقاومة سنداً في المواجهة مع الولايات المتحدة وإسرائيل.

وإذا تعثر تشكيل الحكومة العراقية في الموعد الدستوري، أو إذا تشكلت على نحو لا يرضي طهران، قد تواجه هذه خصومها بوضع معقد سياسياً وأمنياً في بغداد يستحيل معه أي عمل حكومي. بمعنى آخر، إذا لم يستقر الصراع في العراق على مهادنة أو مقايضة أو توافق شبيه بما قامت على أساسه حكومة نوري المالكي قبل أربع سنوات، فإن من الصعب الحفاظ على ما تراضى عليه اللبنانيون أو توافقوا. ما دام البلد جزءاً من الصراع بين المشروعين الأميركي والإيراني. ويرجح أن ينتقل إثرها ثقل المواجهة إلى لبنان. وعندها لن يبقى الوضع على حاله كما استقر بعد laquo;اتفاق الدوحةraquo; الذي نظم انتخاب رئيس جديد للجمهورية ومهد للانتخابات النيابية الأخيرة فولادة حكومة سعد الحريري. وستكون هذه الحكومة أولى ضحايا المواجهة حول المحكمة الدولية. وإذا احتاج الأمر إلى تسخين أمني فإن الظروف مواتية تماماً.

وليس اليمن بعيداً من laquo;الحرب الباردةraquo; في المنطقة. فلم تكد الحرب الحوثية السادسة تضع أوزارها حتى عاد الوضع الأسبوع الماضي إلى ما كان عليه قبل الاتفاقات الأخيرة بين صنعاء والمتمردين. ولا تؤشر الأجواء إلى صمود وقف اطلاق النار الذي أبرم بين الحوثيين وقبائل بن عزيز. وفي حين استفاد نظام الرئيس علي عبد الله صالح من انخراط المملكة العربية السعودية في الجولة السابقة من الحرب، يحاول اليوم الاستفادة من وقوف بعض القبائل في المنطقة ضد خصومه. ولا يجد في هذه الأثناء بداً من محاورة المعارضة لتطويق laquo;الحراك الجنوبيraquo; ونشاط laquo;القاعدةraquo;. مع ما يستتبع ذلك من تنازلات أولى ضحاياها حكومة جديدة تتنازعها الموالاة (حزب المؤتمر الحاكم) وبعض المعارضة. ولا حاجة إلى شرح ما يعنيه هذا laquo;التوافقraquo; أيضاً من مزيد من الشلل في الأداء الوزاري، وتآكل هيبة النظام.

أما الملف الفلسطيني فليس أفضل حالاً. فإلى غياب أي أمل بإمكان تحقيق المصالحة بين laquo;فتحraquo; و laquo;حماسraquo; وهو الموضوع الأكثر ارتباطاً بالصراع بين المشروعين في المنطقة، تبدو الولايات المتحدة مستعجلة المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، لعلها تفلح في تحقيق تقدم يضعف القبضة الإيرانية في هذه القضية. وحتى تحقيق ذلك يبقى الفلسطينيون يعانون في ظل حكومتين، واحدة للضفة الغربية وأخرى لقطاع غزة. ففلسطين ليست أفضل حالاً من العراق أو لبنان. وحتى السودان قد يلحق بالثلاثة... إذا تم الطلاق بالثلاثة بين الشمال والجنوب. وهو طلاق آت كما ترجح التوقعات والمواقف.

العراق هو الاستحقاق الداهم والمؤشر إلى اتجاه بوصلة الأوضاع في أكثر من بلد عربي على خط المواجهة بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية. ولا مبالغة في القول إن مآل هذه الحرب الباردة، سواء سخنت أو انتهت بتسوية، سيبدل في صورة التحالفات القائمة، وسيحدد في النهاية معالم النظام الإقليمي الجديد وفاعلياته. حتى ذلك الحين لا بد من التعايش بلا حكومات أو مع شبه حكومات!