علي بن حمد الخشيبان

عندما يتخرج أبناؤنا وبناتنا في المدارس نجد في جعبتهم الكثير من العلوم النظرية والقليل من العلوم التطبيقية ، وهم عندما يخرجون إلى الجامعات أو منها إلى سوق العمل يخرجون وهم مصابون بنوع من التخمة النظرية كنتيجة طبيعية لذلك الكم الهائل من التطبيقات النظرية.

وإذا تحدثت إلى احد عن ذلك الكم الهائل من تلك المعارف النظرية وخاصة فيما يتعلق بالعلوم الإسلامية أو غيرها من المواد النظرية فإنك بعد هذا الحديث تحتاج إلى اكبر المحامين للدفاع عنك وإعادة البياض إلى صفحة حياتك لأن هذه القضية ليست مجالا للحديث فمنها واليها ينتهي الاتهام لك بأنك ضد الكون كله ونواميس الحياة لمجرد أن تطالب بان تكون المواد العلمية واللغات أكثر تواجدا في الجدول الدراسي اليومي.

هذه الأفكار هي التي جعلتنا نتخلى عن الحديث أو النقاش في أهم الموضوعات حساسية ألا وهو قضية التعليم وترتيب أولوياته وصناعة ميزان طبيعي يتوافق بشكل طبيعي مع متطلبات العالم التربوية، العالم اليوم يتنافس في خلق جيل جديد من الطلاب يجب أن يتميز بشكل كبير في قدرته التحصيلية في مواد العلوم والرياضيات لكي ينافس في عالم متسارع اختلفت فيه موازين العملية التعليمية والتربوية.

التعليم في المجتمع أمام تحد كبير بين المستقبل ، وبين بعض الأفكار المجتمعية المنغلقة التي لا ترى ضرورة للكثير من مظاهر التربية والتعليم الحديثة في العالم وخاصة عندما يتم الحديث عن متطلبات عالمية من العلوم وموازنة مخرجات التربية والتعليم مع متطلبات سوق العمل.

ما افقدنا الطرق الصحيحة في عمليات التربية والتعليم أننا لا زلنا نتحدث عن الكم في عدد المقررات وخاصة أن وزارة التربية والتعليم تواجه الكثير من القيود الاجتماعية والتنظيمية لتجاوز أزمات التركيز على الكم المعرفي وليس الكيف.

تطوير التعليم كما يبدو ليس قضية أشخاص أو قضية نظام بيروقراطي فالأفراد ، والنظام البيروقراطي مهما كان شكله ، لن يستطيعا أن يتجاوزا ثقافة التعليم في المجتمع التي لا تتخلى عن ممارسة دورها المباشر في تكييف المؤسسة التربوية مع متطلباتها بطريقة تلقائية كنتيجة طبيعية للشكل البيروقراطي القائم.

التعليم في مجتمعنا تعليم تقليدي مهما بدت مظاهره غير ذلك ، ومهما كانت مشروعاتنا كبيرة وجبارة فلازلنا نتحدث عن معلم ومقرر وطالب وأزمتنا تكمن دائما في فشلنا المستمر في بناء الجسور الصحيحة بين المقرر والمعلم والطالب ولذلك نحن نجني دائما نتيجة طبيعية لهذا الفشل فلا طالب متفاعا ومحب للتعليم ولا معلم راض عن العملية التربوية ولا مقرر يفي باحتياجات المجتمع المحلية والعالمية.

ولعلنا نستطيع من خلال هذه الفكرة أن ندرك لماذا يكره طلابنا وطالباتنا المدارس ولماذا يكره معلمونا ومعلماتنا الذهاب إلى المدارس لولا الهدف الوظيفي؟ ولماذا أصبحت مقرراتنا أعباء ثقيلة على قدرات الحفظ لدى أبنائنا، كل هذه الأسباب أنتجت لدينا علاقة غير حميمة بين عناصر التعليم التقليدية والتي تشكل المربع رقم واحد في تطوير التعليم ومع كل أسف لم نستطع تجاوزها إلى اليوم، لذلك أصبح من الصعوبة الاعتراف بأن الحلول جاهزة لتغيير التعليم نحو الأفضل لان المشكلة متراكمة ومتفرقة بين عناصر كثيرة يصعب فك تداخلها بسهولة.

التعليم في مجتمعنا يبدو في ظاهره عملية إجرائية كبيرة ولذلك فإن كل من دخل التعليم كمسؤول تعجبه تلك العجلة الكبيرة للمؤسسة التربوية ولكنه عندما يدلف إلى هذه المؤسسة فإنه يتوه في نظام بيروقراطي معقد ثم ينتهي به المطاف إلى مخرج الطوارئ.

لقد أصبح العمل في مؤسستنا التربوية يتطلب أن تستجيب لنظامها التقليدي لأن التغيير يصعب فيها يوما بعد يوم وعاما بعد عام كنتيجة طبيعية لمؤثرات تزايد السكان ونقص الإمكانات فالتطور السريع الذي يحدث في العالم بالإضافة إلى تمسك الثقافة المجتمعية بمنهجيتها التقليدية لتعريف التعليم وهذه هي أزمتنا الأكبر.

ثقافة المجتمع لدينا ترى التعليم من منظور كونه (تعليما فقط) وهذه الكلمة هي السر والأزمة في نظامنا التربوي، لذلك نحن بحاجة إلى تغيير هذا المفهوم ليصبح فلسفة تقوم على أن (التعليم تطوير للعقل والإنسان).

الثقافة المجتمعية التقليدية ترى أحقيتها بامتلاك الزمام لتسيير دفة التعليم ولذلك فمن الطبيعي أن تقدم الثقافة المجتمعية متطلباتها المحلية ولذلك عندما بدأ التعليم قبل عقود كانت المتطلبات تعليم القراءة والكتابة ومن ثم التركيز على التعليم الديني لكون المجتمع بحاجة إلى مثل هذه العلوم لكون التعليم ومؤسساته الطريق الوحيد لنشر المعرفة الدينية والثقافة المجتمعية.

اليوم وبعد مرور عقود طويلة على إنشاء مؤسساتنا التربوية لازلنا وثقافة المجتمع محصورين بهذا المفهوم ولذلك تكمن أزمتنا الدائمة في عدم تجاوز المربع رقم واحد في العملية التربوية، ولكي تصبح الصورة أقرب لنرَ هذا المثال: أصبح العالم كله بما فيه مجتمعنا ليس بحاجة إلى من يكتب بخط جميل للعمل في كتابة الرسائل والتقارير لأن أجهزة الكمبيوتر حلت مشكلة الكتابة والخطوط الجميلة لذلك يبقى السؤال المهم هل نستمر في تعليم الكتابة والخط بالطرق التقليدية أم نعلم مادة الخط من خلال الكمبيوتر أم نلغيها وندمجها في متطلبات مهارية أخرى..؟ هذا سؤال جوهري يمكن تطبيقه على كل المقررات الدراسية الأخرى.

العلوم التطبيقية لا تشكل سوى نسبة قليلة من التعليم لدينا في مقابل التعليم النظري والسبب في ذلك أننا لازلنا بنفس المنهجية التقليدية في التعليم، لقد أصبحت المهارة العقلية هي المتطلب الأساسي في التعليم فقد اكتشف العالم المتحضر أن فلسفة التعليم القائمة على تكثيف المعرفة المرسلة إلى الطلاب أمر سلبي والسبب في ذلك أن المعرفة لم تعد محصورة في جدران المدرسة وعقل المعلم لقد أصبحت المعرفة اليوم متاحة للجميع عبر تقنيات متطورة.

لذلك يبقى السؤال المهم الذي يقول : ما هو دور المؤسسات التربوية الحديثة اليوم..؟ التعليم اليوم في مجتمعنا يجب أن يتجاوز فكرة إرسال المعرفة إلى عقول الطلاب واستبدالها بفلسفة كيفية استثمار تلك المعرفة لتطوير المهارات العقلية للطالب.

في الحقيقة لم تعد فكرة القراءة والكتابة والنجاح في المدرسة هي جوهر التعليم فحتى الذين في منازلهم يستطيعون الانتساب إلى المدارس والنجاح فيها. لقد أصبحت الأسر (الآباء والأمهات) اليوم أكثر براعة من المدارس في عملية التعليم التقليدية (احفظ وانجح) ولذلك أصبح الكل ينجح ولكن إلى أين وكيف؟.

لو أن هناك دراسة علمية حقيقية تتبع دور الأسرة التعليمي في مجتمعنا لاكتشفنا الكثير من الحقائق التي تكشف لنا تراجع المدرسة عن دورها ليس بسبب خلل فيها ولكن بسبب عدم مواكبة التغيرات في فلسفة العملية التعليمية ولذلك يجب أن نتذكر دائما لماذا يكره أبناؤنا مدارسهم لأنهم يجدونها في المنزل بعد خروجهم لذلك هم يتشبعون ويصبح تلقائيا أنهم سوف يبدون الكره لما هو خارج منازلهم حيث المدرسة والمعلمون.

إن إشكالية التعليم في المجتمع تتنامى يوما بعد يوم والأسباب كثيرة ومتعددة ومن أهمها أن المجتمع لازال يساهم وبشكل كبير في تأجيل عملية التطوير فما يتم صرفه على التعليم من أموال لا يوازي أبدا ما يحققه هذا التعليم من تطور فلازال لدينا من يعتقد أن تطوير التعليم عملية تغريبية بالدرجة الأولى وهؤلاء هم السبب الرئيس كما أن المشكلة الأكبر أن هناك وفي داخل المؤسسة التربوية من يرى هذا الرأي.

عملية تطوير التعليم يجب أن تتخذ القرار الجريء والسليم في تخطي ثقافة المجتمع التي كما يبدو أنها أصبحت لا تدرك مصلحتها بشكل جيد فالمجتمع بحاجة إلى جيل من المتعلمين وليس بحاجة إلى جيل من القراء والكتبة والحفاظ ، لذلك لن يحدث أي تطوير في العملية التعليمية ما لم يبدأ من تحديث في سياسة التعليم لدينا وموادها أو إلغائها وصياغة إستراتيجية جديدة.