عبدالوهاب بدرخان


يدور صراع مرير في لبنان بين السعي الى إظهار laquo;الحقيقةraquo;، أو شيء منها، في قضية اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، وبين السعي الى تجهيل تلك الحقيقة وحتى قتلها. لكن هذا مجرد عنوان مرحلي لأزمة أكثر عمقاً، محورها استعادة الدولة من المتاهات التي ضُيِّعت فيها، أو استمرارها مخطوفة ومصادرة.

كان متوقعاً دائماً ان تكون لحظة الحقيقة صعبة وموجعة، لكن لا بد منها، أياً تكن، لعلها تكسر تقاليد الصمت والترهيب التي رسّخت قبول الاغتيال السياسي كأنه حدث قدري عابر، أو laquo;حقraquo; يمارسه المتسلط إذ يستمده من قوة سلاحه ومن الأمر الواقع الذي يفرضه.

طوال الأعوام الخمسة الماضية، وبالأخص خلال الأزمة التي عُطّلت فيها الدولة ومؤسساتها كافة، بما فيها المجلس النيابي، قيل الكثير لكن كلمة السر التي لم يفصح عنها دائماً ظلت هي نفسها: المحكمة الدولية... فهذه المحكمة رُفضت بمبررات وذرائع شتى، وكانت في أساس الأزمة المفتعلة، وقد أُريد ايضاً تعطيلها. وعلى رغم ان مؤيديها كانوا ولا يزالون يقرّون بأن اللجوء إليها كان اضطرارياً، إلا ان معارضيها لم يكونوا يريدون التحقيق اصلاً.

لم يكن ذلك الاغتيال من النوع الذي يخططه ويدبره وينفذه فرد انتحاري، وإنما كان واضحاً ان هناك منظومة وراءها دولة أو دول وأجهزة موزعة الأدوار والمهمات. لذلك كثرت الشبهات وتداخلت، ولم يكن للمطالبين بالحقيقة أن يعمدوا الى تبرئة هذه الجهة أو تلك، بل تركوا ذلك للتحقيق. ولعل المرحلة الأولى منه أعطت مشروعية لبعض الشكوك، بعد أخذها بشهادات الزور. إلا ان المرحلة الأخيرة والنهائية التصقت بمسرح الجريمة وما يوفره من أدلة، ورمت جانباً الاستنتاجات السياسية المسبقة، لكن الأكيد ان استقراءها الأدلة لا بد من ان يقود الى أطراف سياسية موجودة على الأرض، فالاغتيال لم يحصل صدفة أو بدوافع جنائية بحتة.

كان ولا يزال هناك تبرم وضيق من laquo;التسييسraquo;، لأنه سيقود حتماً الى إسقاطات السياسة الأميركية في المنطقة، بانحيازها الغبي الأعمى لإسرائيل، وبعدائها السافر حيال سورية وإيران واستطراداً لـ laquo;حزب اللهraquo;. والواقع ان سلوك الولايات المتحدة في مجلس الأمن، حيث وقفت دائماً تحمي مجرمي الحرب الإسرائيليين، يبرر الطعن بنزاهتها في إدارة مسائل تتعلق بالعدالة الدولية. ثم ان النمط الابتزازي الذي تعامل به السودان بالنسبة الى اتهامات المحكمة الجنائية الدولية للرئيس السوداني، يدل ايضاً على التلاعب الأميركي المكشوف بالملف تسهيلاً لانفصال جنوب السودان وليس إحقاقاً للعدل في دارفور. فواشنطن تدعم عمر البشير أو تشجع على اعتقاله وفقاً لتجاوباته أو تمنعاته في مسألة انفصال الجنوب.

لا شك في ان تدخلات وتلاعبات أميركية أو إسرائيلية من هذا النوع ستدمر عمل المحكمة الدولية الخاصة بالاغتيالات في لبنان. لكن الفارق ان هذه المحكمة ليست في صدد اتهام أي مسؤول عربي رفيع المستوى laquo;لعدم توافر الأدلةraquo;، وأنها ستكون معنية تحديداً بمن كانوا على الأرض وعلى درجات متفاوتة من التورط والمشاركة في الجريمة. غير ان التدخلات العلنية الإسرائيلية، سواء بلسان رئيس الأركان أو عبر الصحافة، تبدو كأنها تحفز على التأزيم والفتنة في لبنان من خلال تسليط الضوء على الاتهامات التي يمكن ان توجه الى أشخاص من laquo;حزب اللهraquo;. لذلك نقل الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله القضية الى العلن، متسلحاً بالتصريحات الإسرائيلية، ليبدأ انتفاضة ضد المحكمة وكل ما سيصدر عنها لأنه في نظره استكمال أميركي ndash; إسرائيلي للحرب على laquo;حزب اللهraquo;، تماماً كما انتفض الرئيس السوداني لكن بعد صدور الاتهامات ضده.

قد يذهب laquo;حزب اللهraquo; الى التأزيم لاحتواء انعكاسات الاتهامات وتفاعلاتها الداخلية، قد يصعّد اعتراضه الى حد المطالبة بعدم تعاون لبنان مع المحكمة وبسحب القضاة اللبنانيين الأعضاء فيها وبعدم المساهمة في تمويلها، لكنه مع ذلك لن يستطيع تعطيل عملها أو إلغاء الاتهامات إذا صحّت. وحتى التأزيم الداخلي باتت له حدود، لأن اللعبة التي صنعت أزمة 2006 ndash; 2008 تغيرت، فلم تعد سورية مثلاً معنية أو صاحبة مصلحة في التأزيم حتى لو كان لديها رفض مبدئي لوجود المحكمة الدولية وعملها. كما ان الوضع الإقليمي ndash; خصوصاً العربي - لا يبدو مؤاتياً للتأزيم حتى لو توافرت عناصره.

هذا لا يعني ان الأمور تحت السيطرة، أو أن هناك ضوابط صارمة لمنع الانزلاق الى فتنة، لكن يفترض عدم التواني والتأخر في تفعيل دور الدولة إما عبر مجلس الوزراء أو عبر هيئة الحوار الوطني، وإلا فما معنى هذا laquo;التوافقraquo; الذي استهلك شهوراً قبل ان يبلور الحكومة الحالية. ومع ان laquo;حزب اللهraquo; يرفض الحوار للبحث عن مخرج، فلا مناص من هذا التوجه، لأن التأزيم وحده سيورطه في معضلة داخلية قد لا يتمكن من إدارتها وبالتالي قيادتها الى النهاية التي ترضيه وتناسبه.

وفي اللحظة الراهنة تلوح ملامح شبه بين الاتهامات في قضية اغتيال الحريري وقضية لوكربي، فالجهات المتورطة كثيرة والأدوار متشابكة، لكن عبء مواجهة laquo;الحقيقةraquo; سيقع على طرف واحد. والأهم الآن إيجاد مخرج بل مخارج لكبح الفتنة، ولا شك في أن خيار المحكمة يبقى اقل خطراً وأفضل مستقبلاً من خيار الشارع كما جرّب في 7 أيار (مايو) 2008.