سرمد الطائي

تمر إيران بواحدة من أصعب لحظاتها مع العراق، بعد اعوام من التأثير الكبير الذي استغل فراغ القوة في قلب الشرق الاوسط.

ولأزمة طهران الحالية التي تصعب عملها في العراق 3 أطراف، هم الاتراك والعرب وشيعة العراق أنفسهم، رغم انهم أصدقاؤها او حلفاؤها. وفي اطار هذه الخلطة هناك تغيير يطرأ بهدوء، وأرض تتحرك تحت اقدام المعادلة الايرانية التقليدية التي صمدت نحو 7 أعوام، الامر الذي يسمح لنا بالقول ان ايران تحاول استيعاب صدمة صعبة، وهي بحاجة الى وقت لاستعادة توازنها وتصميم خطة عمل في ظل ظروف مختلفة.

ايران تحاول الضغط لتجديد ولاية رئيس الوزراء نوري المالكي. والرفض يأتي من دمشق وأنقرة، والأهم من كليهما، الاحزاب الشيعية. فهؤلاء يقاومون الضغوط حتى الآن.

أنقرة ودمشق، وكلاهما يحتفظ بمصالح مميزة مع طهران، نجحا في إخبار الايرانيين بأن اللعبة تتغير. لقد كانت طهران في الاعوام الماضية تبرم صفقات وتطلب من انقرة ودمشق التعايش مع الطريقة التي صممت وراء هضبة زاغروس القاحلة، كما كانت طهران تفرض على واشنطن ان تتعايش مع تلك الصفقة. اما اليوم فإن دمشق وأنقرة يريدان ان يكونا شريكين يتوليان تعديل كل الخطوط الرئيسية، وأخذ حصة تضاهي حصة ايران من التأثير، والمبرر الاساسي هو ظهور القائمة العراقية كأكبر كتلة فائزة، تحتفظ بعلاقات غاية في المتانة مع الاتراك والسوريين، الى جانب ما يوصف بأنه quot;تصدعquot; في الخندق الشيعي العراقي، او انقسامه بطريقة quot;ايجابيةquot; اي انها يمكن ان تطلق تحولات مهمة.

في وسعنا القول ان هذا جزء مما يقلق طهران، وتحاول القيادة الايرانية ان تستوعب دلالاته منذ آذار الماضي. وهو ايضا ما يؤخر ظهور مبادرة قوية لتشكيل الحكومة بعد نحو 5 أشهر على الاقتراع التشريعي.

اما اكثر اجزاء الصدمة الايرانية اثارة فهو شيعة العراق. هؤلاء يريدون اليوم اعادة النظر ولو بشكل تدريجي وبطيء، في علاقتهم الوثيقة للغاية بطهران.

الايرانيون افضل من يدرك ان الاحزاب الشيعية العراقية لن تبقى خاضعة بقول مطلق لتأثيرات quot;الاخ الشيعي الكبيرquot;. يدرك المرشد علي خامنئي افضل من غيره، أن العراق ليس لبنان رغم وجوه التشابه. اذ ليس في لبنان نفط يتيح لأحزابه ان تتحول الى مشاريع استثمار عملاقة كما يحصل مع الساسة الشيعة في العراق. وليس في لبنان ارض مترامية الاطراف تتيح للاعبين هامش مناورة من حدود الاتحاد الاوروبي قرب الاناضول، الى بحر الهند اقصى الخليج العربي. وليس في لبنان ايضا quot;نجفquot; كالتي لدى احزاب العراق، وفيها الحوزة العلمية بكل رمزيتها.

تدرك ايران ان اصدقاءها العراقيين يمتلكون كل مقومات ان يستقلوا في قرارهم السياسي، دون ان يتحولوا اعداء لإيران بالضرورة. وأن شيعة العراق سيشعرون يوما ما، بالقوة الكافية التي تحولهم الى quot;صديقquot; لإيران يشبه دمشق او حتى أنقرة، اي يؤسس علاقة متوازنة او يصحح جذريا العلاقة الحالية.

وبقدر ما تعيش ايران عزلة شبه مطبقة، تنتعش علاقات الاحزاب الشيعية العراقية بالاطراف الدولية الكبرى، وبعمالقة النفط الذين ضربوا خيامهم في البصرة على حدود المنطقة العربية quot;الايرانيةquot; منذ مطلع العام. وهناك من يسأل: كيف سيكون شكل العلاقة بين ايران العاجزة عن تطوير صناعتها النفطية، وأصدقاءها في بغداد، حين يكون لدى ساسة الشيعة هنا، 10 ملايين برميل تضخ كل يوم الى الاسواق المتعطشة للمزيد من البترول؟

يتوقع الكثيرون معي، ان العقد المقبل سيشهد تبلور اكثر علاقة مثيرة للجدل في المنطقة، وهي علاقة الشيعتين في ايران والعراق. يمكن ان تتبلور ظروف تظهر فيها قوة شيعية عراقية توازي نظيرتها الايرانية، بطريقة مختلفة، وحينئذ ليس في وسع واحدة منهما ان تجعل الاخرى مجرد تابع لها، فإما ان تحفظ كل منهما للاخرى هامش احترام خصوصيتها، او ان تنشأ ظروف قد تقود الى القطيعة والخصام حتى.

كانت ايران عام 2005، قادرة عبر اتصالات بسيطة، ان تحل اعقد الامور، ولم يكن في وسع شيعة العراق الا ان يرضخوا لصفقتها او ان يكتفوا بإجراء تعديلات طفيفة على الرؤية الايرانية. اما اليوم فقد بات ابرز الساسة الشيعة، قادرين على المناورة بقوة، وإيران المصدومة من quot;الممانعةquot; الشيعية العراقية، تحاول استيعاب الموقف وعلاجه قبل ان ينفلت.

لن يقول احد ان الامور ستجري بسرعة، لكن quot;البروفاquot; الشيعية التي تستهدف تصحيح العلاقات مع ايران، تنطلق بهدوء. المؤشرات القادمة من التيار الصدري والمجلس الاعلى نفسه، تفيد بذلك. وكلا التيارين يستعرض quot;دماءه الجديدةquot; اي مقتدى الصدر وعمار الحكيم، بطريقة تلفت نظر واشنطن نفسها. اما معسكر نوري المالكي فقد كان السباق لمحاولة ادخال تعديلاته الخاصة على تلك العلاقة.

لا يمكن للصلات الوثيقة بين الاحزاب الشيعية العراقية وطهران ان تنثلم بسرعة، ولكن ليس في وسع هذه الصلة ان تبقى كما هي. لقد قرر شيعة العراق ان يتحولوا من ميليشيا معارضة تدعمها ايران، الى احزاب سلطة لها السهم الوافر في قيادة واحد من اصعب البلدان وأغناها. وما يجري اليوم هو جزء من تحول quot;الميليشياquot; الى quot;مستثمر في السياسةquot; يهمه ان يتحول الى شريك للعرب والايرانيين والدول الكبرى، لأنه يمتلك كل مقومات اللاعب الآخذ في الصعود.

المطلوب اليوم من الاطراف العراقية والاقليمية الاخرى، ان تدرك هذا التحول التدريجي، وأن تتولى تشجيعه بعناية. ان تترك له الفرصة كي يظهر تدريجيا بولادة طبيعية.

وحين يجري تصحيح العلاقة بين الشيعة في العراق ونظرائهم الايرانيين، فإن الامر يمكن ان يطلق عملية تصحيح واسعة في كل العلاقات المعقدة الاخرى في المنطقة، كي يتحول العراق من عنصر انقسام قومي وديني، الى عنصر يساهم في تصحيح استراتيجي في قلب العالم. ولعل بداية الانطلاق ستكون الحكومة العراقية المقبلة التي تشغل كل عواصم صنع القرار الدولي.