قاسم حسين

من أهم الأخبار التي تداولتها وكالات الأنباء خلال اليومين الماضيين، تعهّد أربعين من ميليارديرات أميركا وعائلاتهم تقديم أكثر من نصف ثرواتهم لمنظمات خيرية.

المبادرة أطلقها بيل غيتس (مؤسس شركة مايكروسوفت)، ووارن بفيت (أحد الكبار في مجال الإعلان)، واستقطبت مجموعة من أشهرهم مؤسس شبكة (سي إن إن) الإخبارية، وعمدة نيويورك، ومؤسس شركة أوراكل، ومؤسس مصرف (سيتي غروب). وهناك مساعٍ لإقناع أكبر عدد لتخصيص أكثر من نصف ثرواتهم للجمعيات الخيرية.

تبرز أهمية هذه المبادرة كونها تمثل التزاماً أخلاقياً، في مجتمعٍ مادي كان يتفاخر في أدبياته بعبادته للدولار. بعض الآراء أشارت إلى ما يلعبه التهرّب من الضرائب من دور في اتخاذ مثل هذا القرار، باعتبار أن القوانين الأميركية تعفي المتبرعين للأعمال الخيرية من الضرائب، إلا أن موافقة أربعين مليارديراً على التبرع بما مجموعه 600 مليار دولار خلال ستة أسابيع، يكشف عن الجانب الآخر من المسألة.

الفكرة تدعو إلى أن تناقش الأسر الثرية جداً، ما ستؤول إليه ثرواتها، وما يمكن أن تفعله تبرعاتها في الحياة. وليس من السهل إقناع عائلة جمعت على مدار جيلين أو ثلاثة ثروة ضخمة، بأن تتنازل عن نصفها... إلا أن تتوفّر أرضية فكرية تتقبل مثل هذه الفكرة التي تبدو مثالية جداً، في مجتمعٍ مغرق بالماديات.

في العام الماضي، بلغ مجموع التبرعات للمؤسسات الخيرية الأميركية 300 مليار دولار، وتوقع بيل غيتس أن تكون ضعف ذلك هذا العام. ويعتزم مع شريكه في laquo;حملة العطاءraquo;، الالتقاء بمجموعة من المليارديرات الصينيين والهنود لمناقشة العمل الخيري والطرق الأنسب لتقديم المساعدات المالية، على أن يترك للمتبرع خيار تحديد مجال صرفه.

الدرس في ذلك أنه حتى في الدول الغربية التي ابتليت مناطق الفقراء بجشعها وحروبها وتكالبها على ثرواتها منذ قرون، ثمة نفحاتٌ إنسانيةٌ تهبّ عليها، فتعيد لها بعض فطرتها واحترامها لذاتها، وتذكّرها بضرورة الإحساس بالآخر المختلف طبقياً أو عرقياً.

في المجتمعات الشرقية التي تقيم للأخلاق اعتباراً، تكفّلت الأديان بالحث على العطاء، عن طريق تزيين الفضائل والترغيب بالأجر في حياةٍ أخرى. وفي الإسلام هناك اهتمامٌ بالغٌ بالصدقة بشتى أشكالها، سراً وعلانيةً، ليلاً أو نهاراً، فالقصد أن يبقى حبل الرحمة والتعاطف والمودة ممدوداً بين هذا الجنس الغريب من المخلوقات، الذي ينحدر أحياناً إلى انتزاع اللقمة من فم جاره أو أخيه. ويموت ضميره أحياناً، فلا يهتز لأنين الجياع بينما يتجشأ من التخمة والشبع.

في المحصلة... لا يبقى للإنسان من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدّق فأمضى كما في الأثر، وما عدا ذلك فهو تاركه للوارث والحوادث. مؤسس المصرف الأكبر، وصاحب الشركة العابرة للقارات، أو مالك العقارات وأراضي الدفان، يمضي إلى ملحودته فارغ اليدين... تراباً عاد إلى التراب. فلسفةٌ شرقيةٌ بحتة، هل وصلت يا ترى إلى مليارديرات أميركا فاقتنعوا بضرورة التخفّف وأهمية العطاء؟