شريف عبدالغني


في فيلم laquo;الزوجة الثانيةraquo; جسّد laquo;حسن الباروديraquo; ببراعة دور الشيخ الذي يسخِّر الدين لخدمة مطامع وشهوات السلطة الغاشمة ممثلة في العمدة laquo;صلاح منصورraquo;. كلما أراد العمدة تحقيق أمر حتى لو كان ضد الشرع يظهر الشيخ فوراً ليطالب الرعية بتلبيته وعدم الاعتراض عليه، مرددا دائما: laquo;وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكمraquo;، حتى وصل الأمر إلى تطليق laquo;سعاد حسنيraquo; عنوة من زوجها laquo;شكري سرحانraquo;، وتزويجها للعمدة قبل انتهاء أيام عدتها بعد أن زاغت عينه عليها. وكله تحت شعار إطاعة الله والرسول وأولي الأمر!
يبدو أن laquo;الرئيس الفلسطينيraquo;، وفي قول آخر laquo;رئيس السلطة الوطنيةraquo;، وثالث laquo;مدير أمن الضفة الغربيةraquo; محمود عباس، وفي رواية ثانية laquo;أبومازنraquo;، كان يشاهد هذا الفيلم كثيرا في فترات الاستراحة من النضال وهو يتنقل بين فنادق الـ5 نجوم بين هذه العاصمة وتلك، قبل أن يحط به المسير في رام الله، لذلك فهو يريد المشايخ على شاكلة حسن البارودي، أو الشيخ laquo;متلوفraquo; تلك الشخصية الشهيرة التي ابتدعها بعبقرية رسام الكاريكاتير المصري الرائد عبدالسميع في ثلاثينيات القرن الماضي أيام كانت مصر منبعاً لـlaquo;التفكيرraquo; لا laquo;التكفيرraquo;. ويظهر laquo;متلوفraquo; -المشتق اسمه من laquo;التلفraquo;- في الرسومات وهو ينافق المسؤولين، ويستغل الدين لخدمة أغراضهم وأغراضه.
محمود عباس من ذلك الفصيل من السياسيين الذين يتخذون مواقف ويطلقون تصريحات تجلب الضحك، رغم كونهم بعيدين ظاهريا عن كل ما له صلة بخفة الدم. هو مثلا يرفض الدخول في laquo;مفاوضات مباشرةraquo; مع أهله في غزة، لكنه سريعا يخضع لنفس هذه المفاوضات مع الإسرائيليين، بعد أن تحدى وأقسم إنه لن يدخلها إلا وفق شروط أهمها وقف الاستيطان، رافعاً شعار عبدالفتاح القصري: laquo;أنا قلت كلمة، وكلمتي لا ممكن تنزل الأرض أبداًraquo;، لكن بعد أن وصلته -بحسب تقارير إعلامية- رسالة laquo;ترهيبraquo; من أوباما يطالبه فيها ببدء المفاوضات المباشرة مع نتنياهو وإلا سيقف الدعم الذي يحصل عليه عباس ورجاله سواء من الدولارات الأميركية الخضراء الطازجة أو يوروهات الاتحاد الأوروبي المزهزهة، فقد تراجع عن عنتريته، ويقال إنه أرسل رسالة لحفظ ماء وجهه إلى الرئيس الأميركي تقول: laquo;خلاص كلمتي هتنزل المرة دي، لكن اعمل حسابك المرة الجاية لا ممكن تنزل أبداraquo;.
أما ما يجلب السخرية حقاً، فهي الانتقادات الشديدة التي وجهها laquo;السيد مدير الأمنraquo; للعلامة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، على خلفية موقفه الرافض لزيارة العرب والمسلمين إلى القدس المحتلة، وهو الموقف الذي تؤيده فيه جميع المراجع الدينية الإسلامية والقوى الوطنية العربية بمختلف أطيافها، فضلا عن بطريرك الأقباط المصريين البابا شنودة الذي يتشدد في رفضه سفر المسيحيين إلى بيت لحم إلا بعد تحرير المدينة المقدسة، ودخولها مع إخوانهم المسلمين.
من عجائب القدر أن أبومازن -والمفترض أنه رئيس دولة وسياسي يحسب كلامه بميزان حساس- اعتبر أن القرضاوي laquo;لا يفهم في الدينraquo; لرفضه ذهاب العرب إلى القدس في ظل الاحتلال، قبل أن يتخطى -والد مازن نفسه- كل الحدود ويدعو على العالم العلامة بـlaquo;الله لا يوفقهraquo;.
أشير بداية إلى أنني أعرف الشيخ القرضاوي كقيمة فكرية ودينية كبيرة. إذا أردت أن أصفه سأقول إنه يعتبر مفخرة للعرب والمسلمين، ولو وددت إنصافه لأكدت أن كتاباته ومواقفه لصالح البشرية كلها. رجل لا يعرف التشدد، يحترم الآخر أياً ما كان فكره أو معتقده. وسبق لي شرف لقائه قبل تسع سنوات خلال افتتاح مسجد السلطان قابوس الأكبر في العاصمة العمانية مسقط.
احترامي لهذا العالم يزداد لأنه نموذج معاكس لرجال الدين الذين ذكرتهم في مقدمة المقال، الذين يضعون أنفسهم وعلمهم تحت نعال الحُكم، رغبة في مكاسب دنيوية زائلة. يتكلم في وقت يصمت فيه غالبية المشايخ الذين يحصرون الدين في حركات تؤدَّى وطقوس داخل دور العبادة، وإذا فاجأتهم بطلب رأي عن الإصلاح والتعذيب واحتكار السلطة في أنظمة تدعي الديمقراطية، تجد وجههم يتلون بمئة لون، ويرددون عبارات غير مفهومة.. كلمة من هنا على أخرى من هناك في محاولة للخروج من المأزق، ولعدم laquo;زعلraquo; فلان أو علان ممن يصبغون على حكمهم الصبغة الدينية، ويدعون لهم من فوق المنابر. رأيهم مثل الشيخ laquo;متلوفraquo; حسب المصلحة ووفق اتجاه الريح. أذكركم فقط برجل الدين الكبير الذي مدّ يديه الاثنتين بحرارة لمصافحة شيمون بيريز بطل مجزرة laquo;قاناraquo;. ولما زادت حدة الهجوم على الشيخ، ادّعى -ولا يجوز عليه سوى الرحمة- أنه لم يكن يعرف أن هذا بيريز. وفي ظني -وبعض الظن ليس إثماً- أن الرجل من كثرة ما اعتاد موالسة المسؤولين، أصبح الكل عنده سواء.. فكلهم حكام laquo;والذي لا تحتاج لوجهه اليوم قد تحتاج غداً لقفاهraquo;، ثم إنه كان يرى مسؤولي دولته يأخذون بيريز بالأحضان، وبالتالي قد يكون خشي من laquo;زعلهمraquo; إذا لم يسلّم على laquo;سيادة رئيس الكيان الصهيوني الشقيقraquo;.
هل تذكرون وزير أوقاف مصرياً سابقاً يقال إنه حضر في الثمانينيات مؤتمراً في بغداد، وأثناء دخول صدام حسين القاعة، راح الوزير -الذي هو أساسا من أساتذة وعلماء الأزهر- يأخذ أنفاسا بأنفه المفلطح، قائلا: laquo;إني أشم رائحة صلاح الدينraquo;، ثم ملأت ابتسامته الشهيرة شدقيه ليزداد أنفه فلطحة خلال مرور القائد المهيب laquo;الكريمraquo; عليه. لكن الوزير لحس كل هذا بعد ذلك واتهم صدام بكل الموبقات حينما دخل في مصاف الأعداء لنظامه الرسمي.
إن أمثال هؤلاء هم ما يحتاجهم أبومازن، ليزيّنوا له أنه المنقذ للقضية الفلسطينية، وأن القدس من غيره ستضيع أكثر مما هي ضائعة، ويصدرون له فتوى مخصوصة بأن مشاركته في حصار أهالي غزة laquo;حلال حلال حلالraquo;، لا أن يقولوا كلمة الحق ويتحدثوا عن الفساد في السلطة الفلسطينية مثلما فعل القرضاوي.
من الطبيعي أن يدعو عباس على القرضاوي، لأنه رجل وله موقف، بينما نحن في زمن أشباه الرجال والمواقف المائعة!!