خليل علي حيدر


حلت في الثاني من أغسطس 2010 الذكرى الأليمة العشرون للكارثة التي أنزلها طاغية العراق بالكويت والعراق والعالم العربي بأسره. ومع هذه الذكرى، التي نكاد لا نصدق مرور عشرين عاماً على أحداثها، التي وكأنها وقعت بالأمس القريب، يتجدد الحديث عن قائد نظام الطغيان quot;الضرورةquot;، عن بداياته ومسيرته الإجرامية نحو السلطة، وعن طفولته وشبابه ثم وصوله إلى الحكم، ليقود العراق وشعبه نحو الدمار. أريد في هذا المقال أن أقف عند بعض الصور المعبرة المتقنة التي رسمها الأستاذ quot;إبراهيم الزبيديquot; في كتابه الشيق quot;دولة الإذاعةquot;، الصادر عام 2003، والذي احتوى الكثير من القصص والمعلومات المهمة عن بدايات quot;بعثquot; العراق وأدوار زعاماته وتسلط صدام ورهطه على مقدرات البلاد.

والمؤلف أديب عراقي من مواليد عام 1941، وممن انضموا إلى حزب quot;البعثquot; في مرحلة مبكرة ثم اضطر إلى مغادرة العراق إلى المنفى عام 1974. ولكن ما يجعل شهادة الكاتب ذات أهمية خاصة، أنه من مواليد بلدة تكريت بالعراق، وممن زاملوا صدام في سنوات نشأته ويفاعته وكانت لهما ذكريات مشتركة ذات دلالة خاصة اليوم، بعد أن فعل زعيم الكوارث بشعبه وبنا جميعاً ما فعل، بل لا تزال العراق تتلوى إلى اليوم بسبب تراثه المسموم ولسنوات قادمة.

كانت تكريت في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين بلدة فقيرة مهملة نادراً ما يُذكر اسمها في الصحافة والإعلام، وكان اسمها يتردد، يقول quot;الزبيديquot;، حين يُذكر القائد صلاح الدين الأيوبي، أو حين تُروى أبيات شعرية لأبي نواس يمتدح فيها تكريت. وكان بين سكانها quot;التكارتةquot; وأبناء الموصل عداوة مزمنة. ومن نكد الدنيا على quot;المواصلةquot; أن قطار بغداد-الموصل يتوقف في تكريت، وكان quot;التكارتةquot; يتجمعون لاستفزاز الركاب quot;المواصلةquot;. وكان أهل الموصل بدورهم يترصدون بأهل تكريت لدى زيارتهم الموصل، ليأخذوا منهم بثأرهم.

ولم يكن في تكريت حتى أوائل الستينيات مطعم من أي نوع، ومدارسها قليلة، مع مستوصف واحد بائس، يديره مضمد. أما المهنة الغالبة على أهلها فهي إما البطالة في الغالب والاعتماد على ما يرسله الأقارب العاملون في المدن، أو quot;تسيير الأكلاكquot;، من شمال العراق إلى بغداد. وquot;الكلكquot; عبارة عن مجموعة من جلود الأغنام تخاط على هيئة قرب وتنفخ وتشد بإحكام ثم تربط إلى بعضها وتوضع فوقها أخشاب وتستخدم كوسيلة انتقال نهرية.

ولم يولد صدام في تكريت على تواضعها، بل ولد في قرية تدعى quot;العوجةquot;، ينفر منها أهل تكريت المسالمين، ويرون في أهل العوجة أناساً شريرين، لا يسيرون إلا مسلحين بخناجر وهراوات، ولا يتصرفون إلا بعنف وخشونة، ولهذا قاطعهم التكارتة وابتعدوا عنهم، فلا أحد يجالسهم في مقهى، ولا أحد يدعوهم إلى داره أو يزورهم، وفرضوا عليهم مقاطعة اقتصادية شبه كاملة غير معلنة!

ترسخت الصداقة بين إبراهيم وصدام وعدنان خير الله طلفاح، وكان صدام يكبرهما بأربع سنين. وحين كبرنا قليلاً، يقول الزبيدي، صرنا نسافر معاً بين تكريت والعوجة بزورق صغير، وكانت هوايتنا الوحيدة صيد السمك، وخصوصاً أن لصدام خبرة مبكرة في تركيب قنبلة خاصة ترمى في النهر لتقتل السمك الذي يطفو على سطح الماء بعد انفجارها. يقول الكاتب عن صدام إنه quot;كان يشتري عجينها من مكان وفتيلتها من مكان آخر، كنا، عدنان وأنا، في العاشرة من العمر أو الحادية عشرة، وكان هو في حوالي الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، يخوض بنفسه وبجرأة عجيبة إلى مدى بعيد في النهر، يشعل الفتيلة وينتظر إلى أن تشب النار فيها ثم يرميها، وما هي إلا لحظات حتى يهتز الشاطئ ويتدفق الماء ويطفو السمك فنتسابق مع تيار الماء لالتقاطهquot;.

وعن الجانب العاطفي يقول: quot;أتذكر أن عدنان كان معجباً جداً بأغنية نجاة الصغير، كانت تذاع كثيراً من الإذاعة، هي أغنية (أسهر وأنشغل أنا). كما أتذكر جيداً أنه كان لا يكف عن ترديدها، وأتذكر جيداً وجه صدام حسين آنذاك وهو غاضب بنوع من الاستصغار والاستهجان، صارخاً بوجه عدنان بأن الغناء ميوعة وشيء معيب. كما أتذكره كيف كان يسخر من عدنان ومني حين نتحدث عن الحب والفتيات الجميلاتquot;.

كان والد إبراهيم غير راض عن علاقة ابنه بصديقيه، وكان يوبخ ابنه على علاقته المشينة له، بصداقة ابنه مع أهل العوجة ومع صدام بشكل خاص. وكان يقول: لو لم تكن لك ميول شريرة مثله، ولو لم تكن فاسداً سيئ الخلق مثله لما ألفت رفقته. ولكن إبراهيم كان يستفيد من هذه الرفقة.

ويروي إبراهيم عن صديق رابع زاملهم يدعى نبيل نجم (أصبح فيما بعد سفيراً ثم وكيلاً لوزارة الخارجية)، يقول نبيل: كنا نراجع دروسنا على الشاطئ في الخمسينيات، وطلبنا من كل واحد أن يكتب ما يتمناه في المستقبل، فتمنيت أن أصبح طبيباً مشهوراً، وتمنى عدنان أن يصبح عسكرياً، أما صدام فقد طلب سيارة quot;جيبquot; وبندقية صيد quot;كسْرِيَّةquot; كما يسميها العراقيون، وناظوراً يساعده في الرؤية عن بعد، وحين ألححنا عليه بتفسير غايته قال: وجاهة! ويعلق الكاتب قائلاً: quot;وأظنه نال ما تمنى، فسيارة الجيب هي العراق كله، والبندقية هي أجهزة أمنه المروعة، والناظور هو مخابراته التي تستهلك نصف أموال الوطنquot;.

ومن الحكايات التي يرويها المؤلف إبراهيم الزبيدي عن صدام في المرحلة الثانوية، حكاية المدرس الكردي quot;كاكا عزيزquot; الذي لطم صدام وضربه بالعصا على ظهره دون مبرر. فتحملها صدام بصمت ولكنه انتقم منه ومن شقيقه بإطلاق النار، ولكن الحادث سجل ضد مجهول، وكانت الرصاصة قد أصابت quot;بهزادquot; شقيق المدرس في ساقه. ثم يقول إبراهيم: quot;لابد لي أن أذكر هنا فكرة غريبة أطلقها صدام مبكراً في أعقاب حادثة quot;كاكا عزيزquot;، قال إنه لا يعتبر نفسه خاطئاً ومعتدياً عليه، حتى لو قتله أو قتل أخاه البريء بهزاد. إنها خطيئة ربما في نظر السلطة والمحكمة والقانون فحسب، وهذه كلها مؤسسات وضعية مستحدثة من اختراع الإنسان. والحقيقة هي أن القدر وضعه في طريقي ودفعني إلى قتله أو قتل أخيه، لحكمة لا يدركها عقل الإنسان. وحتى لو سرق أحدنا من مال غيره، فهو لن يكون مرتكباً خطيئة. بل إن ما أخذه هو رزقه الذي أراد القدر أن يأتيه بهذه الطريقة، والدنيا كلها منذ بداية الخليقة تسير بهذه الصيغة: قوي وضعيف، شجاع وجبان، غني وفقير، سادة وعبيد، قادة ورعاياquot;.(ص33).

حين كبرنا وحدث ما حدث، يقول الزبيدي، بدأت أدرك أن تلك الفلسفة المنحرفة هي التي تتحمل وزر الدماء البريئة التي أهرقها صدام ببرودة أعصاب وراحة ضمير. فهي التي صنعت منه ما أصبح عليه. وquot;أنا الآن أقيس كل خطوة من خطواته، عاقلها ومجنونها على حد سواء، بقياس تلك الفلسفة الغريبة التي لا أشك في أن خاله خير الله طلفاح سبقه إليها وسقاه بمائها وأغرقه في خطاياها المدمرةquot;. ترك التحليل والاستنتاج من هذه الحكايات للقارئ، الذي سمع وقرأ حكايات أخرى عن بطل quot;أم المعاركquot;!