أحمد يوسف أحمد

حلت بنا في مطلع هذا الشهر الذكرى العشرون للغزو العراقي للكويت في 1990، وهو عمل ما زال النظام العربي يعاني من تداعياته حتى الآن، وقد كُتب الكثير في هذا الصدد، وسيكتب أكثر في المستقبل، لأن ما حدث كان علامة فارقة في تطور النظام، فقد تكفل الغزو بتدمير مفهوم الأمن القومي العربي، طالما أن التهديد الأساسي لأمن دولة عربية أصبح يأتيها من داخل النظام العربي وليس من خارجه، وأصبح من حق هذه الدولة أو تلك أن تقارن بين تهديد إسرائيلي أو عربي وغير ذلك! وكذلك فإن الغزو لم يمكن دفعه إلا بتحالف عسكري أجنبي قادته الولايات المتحدة التي أصبحت لها اليد العليا في أمن المنطقة لاحقاً. ومن ناحية ثانية فقد أدى الغزو إلى حالة غير مسبوقة من الانقسام العربي، حيث انقسمت الدول العربية إلى معسكرين شبه متوازنين يقف أولهما بوضوح ضد الغزو فيما لا يؤيده الثاني صراحة، ولكن مواقفه وسياساته لا يمكن أن تفهم في الحد الأدنى إلا على أنها تعاطف مع الغزو! وكنا قد تعودنا على أن خلافات العرب الكبرى تتخذ نموذجاً معيناً ينقسمون بموجبه إلى دولة خارجة على مألوف سلوك النظام فيما تعترض البقية على هذه الدولة، وتحاول إعادتها إلى الصف. وقد رأينا هذا في ضم الأردن الضفة الغربية الفلسطينية في 1950، وانضمام العراق لحلف بغداد في 1955، ومطالبته الأولى بالكويت في 1961، والصدام بين الأردن والمقاومة الفلسطينية في 1970، وزيارة السادات للقدس في 1977، فتوقيعه اتفاقيتي كامب ديفيد في 1978، فعقده معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في 1979.

ولكنني أود هنا أن أناقش أزمة الغزو العراقي للكويت من منظور مختلف هو عشوائية القرار العربي، لأن هذه العشوائية للأسف تبدو مستدامة في السياسة العربية، وهي كفيلة بأن تعرض حاضر العرب ومستقبلهم لأوخم العواقب كما حدث في1990 وما تلاها. والسؤال الأساسي هنا: هل كان صدام حسين -بغض النظر عن طبيعة حكمه وأطماعه في الكويت- يتصور أن عملاً كهذا يمكن أن يمر في منطقة تتميز بالوطأة الثقيلة لمصالح القوى الكبرى في النظام العالمي؟ ألم يحسب احتمالات التدخل الدولي المضاد لفعله في عالم كانت القطبية الثنائية قد بدأت تتآكل فيه فيما تبرز في المقابل بدايات الأحادية القطبية، بعد خمس سنوات من حكم جورباتشوف في الاتحاد السوفييتي السابق، خاصة وقد كان التغير الذي طرأ على السياسة الخارجية السوفييتية أكثر من واضح (عالم واحد أو لا عالم، وتوازن المصالح لا توازن القوى)؟ وهو ما يفيد إلغاء التكييف الصراعي للعلاقة بين الكتلتين الاشتراكية والرأسمالية، واستبعاد القوة المسلحة من أدوات تنفيذ السياسة الخارجية السوفييتية. وإذا كان صدام قد تحسب لاحتمالات التدخل الدولي فكيف خطط لمواجهته؟ وهل تصور أن بمقدور جيشه في حرب نظامية مسرحها الصحراء وموضوعها احتلال دولة أخرى في عمل غير مشروع من وجهة نظر القانون الدولي أن ينتصر على هذا التدخل؟ يقولون إنه كان يراهن على quot;الصمودquot; حتى يتم وقف لإطلاق النار نتيجة ضغط على القوى المتدخلة. فمن أين كان هذا الضغط سيأتي يا ترى والسياسة السوفييتية قد آلت إلى ما بينته هذه السطور؟ والقوى الغربية كافة صاحبة مصلحة في القضاء عليه، وحتى القوى الصديقة للنظام العراقي كان لابد وأن تستشعر الخطر في تأييده فيما فعل. ولو صح ما صرّح به مؤخراً طارق عزيز -أحد الأركان الأساسية لنظام صدام- في حديث من سجنه لصحيفة quot;الجارديانquot; البريطانية من أنه قد حذر صدام من تداعيات الغزو، ولكنه أصر عليه، فإن درجة العشوائية في قرار الغزو تكون أفدح، لأن معنى ذلك أن هناك من أجاب على الأسئلة السابقة إجابات صحيحة وإن تكن ناقصة.





تتعلم الأمم والشعوب والدول من خبراتها، وتحديداً من الأخطاء التي وقعت فيها في سياق هذه الخبرات، ولذلك يفترض أن تستخلص الدروس المستفادة من تجاربها، ولكن إمعان النظر يظهر أن العشوائية ما زالت تحكم العديد من القرارات العربية، ويكفي أن نشير إلى القرار الأخير المتعلق بالقضية الفلسطينية، ونقصد به قرار الانتقال إلى التفاوض الفلسطيني المباشر مع الحكومة الإسرائيلية، مع أن الشروط التي وضعتها لجنة متابعة المبادرة العربية للسلام للانتقال إلى المفاوضات المباشرة لم يتحقق منها شيء، كما أوضحت نتائج ما سمي بالمفاوضات غير المباشرة بشهادة رئيس السلطة الفلسطينية نفسه. قد يقال إن السبب في هذا القرار العربي لا يعود إلى العشوائية، وإنما جاء استجابة لضغوط، وأحسب أن مقاومة هذه الضغوط في هذه الحالة ممكنة. وقد وضع هذا القرار السلطة الفلسطينية في مأزق، فهي أول من يعرف الآفاق المسدودة للمفاوضات المباشرة، بالإضافة إلى أنها قد لا تحظى في دخول هذه المفاوضات بتأييد شعبي فلسطيني مناسب، وقد أضاف القرار العربي إليها ضغوطاً غير الضغوط الأميركية.

والأمرّ من ذلك أن الجانب الذي يرفض سلوك السلطة الفلسطينية لا يقدم بديلاً، والأطراف الأخرى في غزة متفرغة لبناء سلطتها، وحتى لو كانت تعزز من قواها تحسباً لمواجهة العدو في المستقبل القريب أو البعيد فإن معنى هذا أنها تحولت على أحسن الفروض إلى قوة quot;ردعquot; وليست قوة quot;استخلاص حقوقquot;، ولو صح أن quot;حماسquot; أو فصائل غيرها مسؤولة عن إطلاق بضعة صواريخ من أرض سيناء على إيلات (سقط معظمها في العقبة الأردنية) فهذه كارثة أخرى. فالمقاومة أولاً ليست عسكرية فقط، وما زال الجانب الفلسطيني مقصراً في اللجوء إلى الأساليب غير العسكرية للنضال، كالعصيان المدني والمقاطعة الاقتصادية، مع أن هذه الأساليب هي الأشمل والأكثر مشروعية وتقبلاً من المجتمع الدولي الذي نحاول بناء قاعدة تأييد قوية لنا فيه، كما أن المقاومة العسكرية ثانيّاً ليست بالأساس إطلاق صواريخ، لأن هذا الإطلاق لا يخلو بدوره من عشوائية ظاهرة، وكل ما يمكن أن تفعله هذه الصواريخ في غيبة استراتيجية شاملة للنضال الفلسطيني هو إعطاء المبرر لإسرائيل لمزيد من العدوان.

لقد فعل بنا القرار العراقي العشوائي في 1990 ما فعله حتى الآن، ونستطيع أن ندرك سلفاً أي منزلق تقودنا إليه القرارات الحالية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والغريب أن هذه النوعية من القرارات هي التي توضع، وبسرعة، موضع التنفيذ. أما القرارات المدروسة التي تحمل معها بارقة أمل في تطوير الوضع العربي إلى الأفضل فتبقى حبيسة الأوراق التي كتبت عليها لتتحول بدورها إلى قرارات quot;ورقيةquot; لا يقل ضرر عدم تنفيذها عن الأضرار التي تلحقها بنا القرارات العشوائية.