عادل الصفتي


ثمة شيء غير معقول في السؤال الذي يبدو أنه يميز المرحلة الحالية من عملية السلام في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني: التفاوض مباشرة أم لا؟ فمعلوم أن التسويات النهائية للنزاعات تتطلب بالضرورة مفاوضات مكثفة ومستمرة بين أطراف النزاع، وهذه الكثافة والاستمرارية غائبة بكل وضوح في ما يسمى المفاوضات غير المباشرة التي تتبادل خلالها الأطراف رسائل عبر طرف ثالث. ثم إن المفاوضات غير المباشرة ليست مفاوضات أصلا نظراً لأن أطرافها لا تتحدث مع بعضها بعضاً؛ ولعل التراسل هو أفضل كلمة لوصف هذه العملية. لكنها عملية قد تستغرق وقتا طويلا ولا توجد ضمانات لحدوث تقدم جوهري فيها مثلما تُظهر ذلك السنوات الكثيرة التي أمضاها القبارصة الأتراك اليونانيون في مفاوضاتهم غير المباشرة.

وفي النزاع الإسرائيلي الفلسطيني من غير الواضح الهدف الذي تسعى المراسلات غير المباشرة إلى تحقيقه غير خلق الانطباع بأن عملية السلام تتحرك، ولا يهم في أي اتجاه طالما أنها تتحرك! وبغض النظر عن نظرة المرء لها، فإن المراسلات غير المباشرة تمثل اعترافاً بأن الطرفين غير مستعدين بعد لمفاوضات جدية. واللافت أن الفلسطينيين هم الذين يصوَّرون، مرة أخرى، على أنهم غير مستعدين لمفاوضات جدية. فكل التركيز بات منصباً اليوم على رئيس السلطة الفلسطينية عباس الذي يتعرض لضغوط متزايدة، بعد أن صوتت الجامعة العربية مؤخراً بدعم مفاوضات إسرائيلية فلسطينية مباشرة؛ حيث هددت إدارة أوباما بأنه ستكون ثمة quot;عواقبquot; في حال لم يتم اغتنام هذه الفرصة؛ وتشمل هذه العواقب، التهديد بخفض العلاقات مع السلطة، وحتى بعزل عباس نفسه!

وفي هذه الأثناء، يقول عباس إنه مستعد لمفاوضات مباشرة مع الإسرائيليين شريطة تلبية مطالبه، وضمنها موافقةً أولية من الإسرائيليين على أن تفضي المفاوضات إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة بحدود 1967، وكذلك وقفاً إسرائيليًا لكل أنشطة الاستيطان.

والواقع أن المطلب الأول جزء من الإجماع الدولي وعلى أساسه يُتوقع أن تقوم تسوية إسرائيلية فلسطينية. ويتكون هذا الإجماع من القرارات الأممية ذات الصلة، وخريطة الطريق التي تدعمها الرباعية الدولية، والتي تعكس الصيغة العامة لمبدأ الأرض مقابل السلام، والمفضية إلى حل يقوم على دولتين تعيشان جنباً إلى جنب في أمن وسلام. أما الحدود النهائية، فسيتعين بالضرورة التفاوض حولها باعتبارها من القضايا الجوهرية، ويتوقع أن تخضع لبعض التعديلات الطفيفة للسماح بدمج ممكن لبعض المستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراض فلسطينية ضمن إسرائيل، مقابل دمج أراض في إسرائيل ضمن الدولة الفلسطينية الجديدة. والواقع أنه كان ثمة اتفاق واسع حول هذه المواضيع في مفاوضات إسرائيلية فلسطينية سابقة، وبالتالي، فإن المطالبة بموافقة قبلية الآن كشرط لمفاوضات مباشرة هو تعبير عن ضعف وهوان.

أما الشرط الثاني لعباس فهو الوقف التام لبناء كل المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويعد هذا المطلب موضوع ضغط أميركي صريح على إسرائيل منذ بداية انخراط إدارة أوباما في عملية السلام، لكن الآن وبينما تفكر الإدارة في الانتخابات النصفية وتواجه تحديات صعبة من الجمهوريين الذين يتهمونها بتبني موقف صارم من إسرائيل، فإنها عمدت إلى تليين موقفها وتعديل مقاربتها والإشادة علنا بنتنياهو. كما باتت تمارس ضغطا على عباس، محذرة إياه من أن عدم اغتنام الفرصة والموافقة على مفاوضات مباشرة ستكون له عواقب وخيمة.

وتأسيساً على ذلك، يمكن القول إن إلحاح عباس على ضرورة تلبية كل مطالبه قبل الموافقة على مفاوضات مباشرة، سيشكل مؤشراً على غياب تفكير استراتيجي ودليلا على عزلة لافتة. كما من شأنه أن يمنح شعوراً بالراحة لنتنياهو الذي سيستمر في تقديم نفسه على أنه الرجل المستعد لمفاوضات مباشرة فورية بدون شروط مسبقة، بموازاة مع سعيه لاستئناف بناء المستوطنات بوتيرة أكبر.

وحتى نكون منصفين، فإن تردد عباس وارتباكه الواضح يعزيان إلى قلق مشروع: ذلك أن فشلاً ممكناً للمفاوضات المباشرة ستكون له عواقب سلبية للغاية بالنسبة للقضية الفلسطينية، وسينهي على الأرجح مشواره السياسي؛ في حين أن ضمانات من أوباما يمكن أن تساعد على تلافي سيناريو كارثي. لكن مثل هذه الضمانات لن تقدَّم طالما رفض عباس المخطط الأميركي.

وعلاوة على ذلك، فإن خطر فشل المفاوضات المباشرة تقويه وتكرسه الطبيعةُ السياسية للخصم الذي سيتعين على عباس مواجهته، وهي طبيعة خادعة ولا يمكن الوثوق بها. وقد تعززت الشكوك العميقة بشأن التزام نتنياهو بالسلام مؤخرا، حيث بثت القناة التلفزيونية الإسرائيلية العاشرة شريط فيديو صُوِّر في 2001، يتحدث فيه نتنياهو مع مستوطني الضفة الغربية بشأن الحاجة إلى ضرب الفلسطينيين بقوة حتى يشعروا بالألم، ويفخر بنسف اتفاقات أوسلو، وبأنه يستطيع التأثير بسهولة في الرأي العام الأميركي، ويؤكد أن استراتيجيته التفاوضية تقوم على تقديم القليل من أجل الاحتفاظ بالكثير. وقد وصف معلق إسرائيلي نتنياهو الذي رسم ملامحه هذا الشريط بأنه quot;فنان خداعquot;، وليس بالضبط زعيما نزيهاً مستعداً للمخاطرة في سبيل السلام، كما يزعم.

غير أن مخاوف عباس، على مشروعيتها، ينبغي ألا تفقده الرؤية، حيث يتعين عليه التركيز على القضية الفلسطينية وشرعيتها والدعم العالمي الذي تتمتع به، وليس على المطالب التكتيكية التي لا تأثير لها.