محمد عاكف جمال

وصلت العملية السياسية الجارية في العراق إلى نهايات شبه مسدودة أحرجت جميع الفرقاء ووضعت الولايات المتحدة، العراب الرئيسي لها، في موقف لا تحسد عليه. الوسط السياسي يسوده جمود شبه تام، بعد أن وقفت نوايا وأهداف الفرقاء السياسيين عائقاً أمام التوصل إلى وسيلة للخروج من مأزق تشكيل الحكومة الذي أتت به الانتخابات النيابية الأخيرة.

ولم يعد لدى الكتل السياسية الثلاث التي تمتلك مفاتيح الحلول (العراقية، دولة القانون، الائتلاف الوطني) ما تقدمه بعد أن تمترس كل منها خلف أجندته. وتراجعت الروح الإيجابية التي سادت لفترة وجيزة في الحوارات، وأصبحت التصريحات التي يدلي بها بعض السياسيون جارحة وبعيدة عن الكياسة في الوقت الذي يقف فيه التحالف الكردستاني موقف المراقب ليرى كيف تتجه الرياح.

ويتزامن مع تفاقم هذه الأزمة انسحاب كبير للقوات الأميركية نهاية أغسطس الجاري من جهة، وعودة العمليات الإرهابية لتهز المدن من جديد من جهة ثانية، وتعاظم غضب الشارع العراقي على الواقع السياسي والمعيشي والخدمي الذي يعيشه من جهة ثالثة.

وسط هذه الأجواء المتوترة تزداد قناعة المشاركين في العملية السياسية والمراقبين لها بضرورة الدور الخارجي لكسر حالة الجمود وتقريب مواقف الفرقاء، وتكثر علامات الاستفهام تجاه النتائج التي قد تتمخض عن القبول بهذا الدور وما يترتب على اللجوء إليه مقابل النتائج التي تترتب على استمرار تعطيل الحياة السياسية في البلاد.

ثلاثة مشاريع تتداخل فيها الإرادات الإقليمية والدولية لرسم مسارات العملية السياسية في العراق، أولاها المشروع الأميركي الذي يدعو إلى تحالف بين أكبر قائمتين فائزتين، ائتلاف العراقية وائتلاف دولة القانون، مع ميل لتفضيل بقاء المالكي في منصبه مقابل تسلم علاوي رئاسة المجلس السياسي للأمن الوطني بصلاحيات واسعة يتم الاتفاق عليها علماً بأن هذا المجلس لا يتمتع بغطاء دستوري.

وثانيها هو المشروع العربي الذي تسانده تركيا والقاضي بإسناد رئاسة الوزارة لرئيس ائتلاف العراقية علاوي، وثالثها هو المشروع الإيراني الذي يهدف إلى إعادة اللحمة بين ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني ليبقى منصب رئاسة الوزارة لمرشح منهما حتى لو كان هذا المرشح ليس هو المفضل لديها.

وصول الأوضاع السياسية في العراق إلى ما وصلت إليه دون وجود بارقة أمل في الخروج من الأزمة يعكس إلى حد ما مدى تراخي أيادي كل من الولايات المتحدة وإيران في التأثير على مسارات هذه الأوضاع.

فعلى الرغم من الزيارات الكثيرة التي قامت بها وفود أميركية وشخصيات سياسية رفيعة بضمنهم نائب الرئيس بايدن ولقاءاتهم مع القيادات العرقية إلا أن هذه الزيارات لم تفلح في كسر حالة الجمود. من جانب آخر فشلت إيران هي الأخرى في إعادة التحالف بين القوى المقربة لها وضمان صعود رئيس وزراء قريب إليها مع كثرة اللقاءات العلنية والسرية التي تجريها مع وفود من الائتلاف الوطني وائتلاف دولة القانون.

من المرجح جداً أن الحلول لأزمة تشكيل الحكومة ستأتي من الخارج وهو ما أشار إليه بشكل صريح البيان الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي في اجتماعه الأخير في الرابع من أغسطس الجاري الذي خصص لبحث الوضع في العراق.

فقد أصدر المجلس قراره بإبقاء العراق تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وتمديد الوصاية عليه عاماً آخر ينتهي في الحادي والثلاثين من يوليو 2011، إضافة إلى إصدار بيان فيه الكثير من التقريع للكتل السياسية العاجزة عن التوصل إلى تشكيل حكومة جديدة وتقريع للحكومة العراقية على سجلها في مجال حقوق الإنسان.

هناك احتمالان لتفسير ما يحدث في أروقة السياسة العراقية، أولهما مبعثه حسن النية فالكتل السياسية الرئيسية الثلاث لم تبدي من المرونة ما يكفي لتذليل العقبات التفاوضية ولم تقدر حجم الأضرار التي تترتب على الخروقات الدستورية التي غضت الطرف عنها، وثانيهما مبعثه غير ذلك وأن ما يحدث هو عملية مقصودة قد خطط لها بعناية لإفشال العملية السياسية وإلزام الولايات المتحدة بدفن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي نادت به إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش.

في ضوء هذه التعقيدات في المشهد السياسي العراقي من المتوقع أن تقوم الولايات المتحدة بجولة أخيرة من الضغوطات في الأيام القليلة المقبلة لحسم الموقف لصالح حل توفيقي، وفي حالة عجزها عن ذلك فليس أمامها سوى خيار الورقة الأخيرة وهي العودة إلى مجلس الأمن الدولي لإصدار قرار جديد بتشكيل حكومة عراقية ومنح المندوب الأممي في بغداد إد ميلكريت صلاحية اختيار شخصية عراقية لرئاستها كما حصل في مايو 2004.

ولكن أياً من هذين الخيارين لن يشكل حلاً لأزمة العراق وإنما ترحيلاً لها لعام واحد أو عامين، فهذه الأزمة ستتكرر كل أربع سنوات وستبقى الحياة السياسية في العراق ملغومة تهدد بالانفجار.

ولعل الحل الناجع هو مواجهة المشكلة وليس التعامل مع تداعياتها. ولتشخيص المشكلة الحقيقية علينا أن نبحث عن جواب لأبرز التساؤلات التي تدور في أذهان الناس وهو: من المسؤول عن هذه الدوامة وأين تكمن عوامل الفشل، أهي في قيادات الكتل السياسية أم في العملية السياسية نفسها؟

قد نحصل على إجابات مختلفة عن هذا التساؤل تعكس مواقف متحيزة تتهم هذا السياسي أو ذاك بالمسؤولية عما وصل إليه العراق، وهي على أي حالة مواقف مشروعة في الحياة الديمقراطية.

إلا أنه من غير الموضوعية اعتبار شخص واحد أو بضعة أشخاص مسؤولين عن تعطيل الحياة السياسية في العراق فذلك لا يمكن أن يحدث في أي بلد يمارس ديمقراطية حقيقية في العالم.

فالعيوب تكمن في العملية السياسية نفسها، وقد انعكست بشكل كبير في الدستور الذي كتب على عجل وشرعت مواده وفقراته على أسس التفاهمات بين قيادات الطوائف ولم تكن دوافعها بناء دولة عصرية قدر ما كانت بناء سلطة تضمن توازنات في مصالح هذه القيادات.