صالح عبد الرحمن المانع


صدر مؤخراً كتاب وثائقي جديد باللغة الإنجليزية حرره أربعة من أساتذة إحدى الجامعات الأميركية ونشرته دار جامعة اكسفورد. والكتاب من القطع الكبير ويتضمن أهم الوثائق الأميركية والعراقية الخاصة بالحرب على العراق. ويتناول هذا الكتاب نصوص الوثائق والمقالات والتصريحات السياسية، سواء أكانت من قبل الساسة الأميركيين أم من قبل الحكومة العراقية، أو حتى التصريحات والبيانات الرئيسية الصادرة من قوات المقاومة العراقية.

وبالرغم من أن الكتاب يعد نقداً واضحاً لسياسات الرئيس الأميركي السابق جورج الابن، خاصة سياسة الحرب الاستباقية التي يستعرض أهم منظريها، من فرانسيس فوكوياما وهنري كيسنجر إلى أقطاب quot;المحافظين الجددquot;. وهنا يفرد المحررون فصلين مستقلين أحداهما يتطرق إلى الأبعاد النظرية لتلك السياسة، كما عبر عنها منظروها خلال عقد كامل من الزمن، ومن خلال التصريحات والخطب والبيانات التي باشرت الدفاع عن هذه السياسة وحاولت إقناع الرأي العام الأميركي بجدوى وquot;عدالةquot; تلك الحرب، سواء من قبل قادة الحزب أو الرئيس نفسه أو من قبل وزيرة الخارجية حينذاك، وباقي أركان الإدارة.

كما ينظر أحد الفصول في الأبعاد القانونية لتلك الحرب، سواء من خلال انتهاكها لمواثيق لاهاي المنظمة للحرب، أو من خلال القرارات والأوامر التي اتخذتها الإدارة المؤقتة للعراق بعد الاحتلال مباشرة. ويشير الكتاب في هذا الصدد إلى أن المادة السادسة من الدستور الأميركي تنص على أن المعاهدات والمواثيق الدولية، بما فيها ميثاق جنيف لعام 1949، وغيره من المعاهدات التي تنظم إدارة الحروب الدولية، تعد جزءاً من الدستور الأميركي متى ما صادق عليها الكونجرس، وبذلك فما حدث هو ملزمة للسلطتين التشريعية والتنفيذية في البلاد.

ولعل من أفضل فصول الكتاب ذلك الفصل الذي يوثق بيانات آية الله السيستاني وآية الله حائري حول الحرب. والدور الرئيس الذي لعبته الحوزات الدينية من خلال تلك البيانات لإدارة المفاوضات بشكل غير مباشر مع سلطة الاحتلال، والتأثير على صيغة الدستور العراقي لعام 2005، ومن ثم على شكل الحكومة والنظام السياسي العراقي الحالي. وفي هذا الصدد يظهر التباين في هذه البيانات والتصريحات قبل الحرب وبعد انتهائها. فقد كانت تدين الحرب وتحض على وجوب المقاومة قبل بدء غزو العراق. إلا أن تلك اللهجة تغيرت فقبلت التعايش مع واقع الاحتلال بعد ذلك وأصبحت تركز على توجيه القادة السياسيين العراقيين لتثبيت ركائز نظام سياسي ودستوري جديد، مدينة في الوقت نفسه أي أعمال طائفية، أو أعمال عنف في البلاد.

كما يستعرض أحد الفصول نصوص القرارات المؤثرة على الاقتصاد العراقي، خاصة تجاه المسائل النفطية، أو في إعادة تشكيل الاقتصاد العراقي من اقتصاد شبه اشتراكي يعتمد على ميزانية الدولة وسياساتها إلى اقتصاد رأسمالي يخضع بشكل كبير للخصخصة واحتياجات السوق. ويسرد في هذا الصدد عدداً من القرارات التي اتخذتها بعض اللجان الحكومية الأميركية، حتى قبل بداية الحرب بعام كامل، وانتهاءً بخطط نائب الرئيس ديك تشيني الذي صرح في بعض خطاباته، والتي تعود إلى عام 1999، قائلا بضرورة تغيير النظام السياسي في العراق، وتغيير الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها ذلك النظام، وهي أقرب ما تكون إلى اشتراكية الدولة.

ويتعرض الكتاب كذلك إلى أهم أركان حكومة الرئيس بوش السابقة، ومنهم المدعي العام البرتو جونزالس، والخبير quot;القانونيquot; في مسائل الإرهاب quot;جون يوquot;، وغيرهم من القانونيين الذين حاولوا إيجاد مخارج قانونية لعمليات التعذيب والسجون غير القانونية، سواء كانت في أبو غريب أم في جوانتانامو.

وفي النهاية يتعرض الكتاب لمقالات أهم الصحفيين الذين شاهدوا الحرب عن كثب، وكتبوا مقالات أشبه ما تكون بوثائق تاريخية لتلك الحرب.

ولاشك أن هذا الكتاب يعتبر واحداً من أفضل الكتب التي كتبت عن الحرب الأميركية على العراق، ليس لأنه حمل وجهة نظر معينة، أو تحليلا معمقا، لكن أهمية الكتاب هي أنه لم يحمل منهجاً يعكس وجهة نظر محرريه إلا في فصله الأخير. بل اعتمد خلال فصوله العشرة على توثيق مقالات وخطابات وإعلانات وبيانات معظم المشاركين الرئيسيين في تلك الحرب، أو من اكتووا بنارها من أهل العراق.

غير أن الفصل الأخير هو الذي عكس وجهة نظر المحررين حيث يتحدثون عن وجود تيارين رئيسيين في السياسة الخارجية الأميركية؛ أحدهما يدعو إلى التوسع خارج الحدود وحماية المصالح الأميركية، حتى ولو عن طريق الحرب، والآخر يدافع عن القيم الإنسانية للجمهورية الأميركية الأولى وهو يدعو إلى تجنب الصراعات الدولية، والاهتمام بتعميق الديمقراطية ومبادئ وثوابت النظام السياسي الأميركي.

ولذلك فإن المحررين يرون بأن انعكاس ذلك على السياسة الخارجية الأميركية جعلها تدور على الدوام في محورين أساسيين ومتعارضين في آن واحد، أحدهما يقوم على مقارعة الأعداء المفترضين وحصارهم والتضييق عليهم، حتى لو عني ذلك الدخول في صراع عسكري معهم، والآخر يدعو إلى الانسحاب والاهتمام بالشأن الاقتصادي والسياسي الداخلي.

وجدير بنا أن نقرأ هذا الكتاب في وقت نشهد فيه انسحاباً مطرداً من العراق، وحصاراً اقتصادياً موجهاً ضد إيران. وهو -ولا شك- يمثل مرجعاً هاماً للباحثين والمهتمين ودارسي السياسة الخارجية الأميركية.