محمد الدعمي

البادية هي التي تحكم المدينة في العالم العربي ولذا نرى قيم الثأر والانتقام وغسل العار والاستخدام القسري المهين للمرأة كأداة لتصفية النزاعات ليس هناك شك في أن بغداد قد بنيت لتكون مدينة، بل وعاصمة، بالمعنى الحقيقي للكلمة، كما أرادها الخليفة المنصور العباسي، وتنطبق ذات الحال على القاهرة كما أرادها الخلفاء الفاطميون. بغداد مدينة والقاهرة مدينة، ولكن الكوفة والبصرة (الإبلة في الأصل) لم تكن مدناً بالمعنى الحقيقي للكلمة ذلك أن عدداً كبيراً من المدن العربية العريقة بنيت كمعسكرات. هذه الحال تنطبق على الكوفة والبصرة، بكل تأكيد، وهي تنطبق كذلك على سامراء (سُرّ من رأى)، إذ يتحول المعسكر إلى نواة للمدينة كي تتضخم وتتوسع حتى تدخل إليها الأسواق والحواري والأحياء، ثم ليتبع ذلك موجات الهجرات من الريف إلى المدينة كي تختلط الدماء كما تختلط الثقافات والعادات والتقاليد. من هنا يتوجب علينا أن نناقش موضوعاً مهماً سبق وأن طُرح من قبل أذكى العقول العربية المعاصرة، وهو موضوع مفتوح للجميع ممن يودون المساهمة في أنشطة تبادل الرأي حوله، الموضوع، باختصار هو: لماذا لا نملك في العالم العربي مدناً أو حواضر بالمعنى الدقيق للفظين، أي مدناً مثل لندن أو نيويورك حيث يشعر المرء أنه في ظل حضارة مدنية بالمعنى الصحيح؟ ثمة شعور بالانغمار في أجواء المدينة يعتريك وأنت تتمشى بين أنواع مختلفة من المارة في شوارع مونامارتر أو في سوهو: هل تكتسب المدينة صفتها quot;المدينيةquot; من سكانها، أم مما يحملونه في دواخلهم من أخلاقيات وقيم اجتماعية؟ وهل هذا قد تحقق في أية مدينة عربية سابقاً كي ندّعي بأن لنا مدناً يمكن أن تقارن بالمدن الأوروبية أو الأميركية؟ بلى، حاولت بيروت ما قبل 1973 أن تبلور صورة لمدينة عربية، شرق أوسطية يمكن أن تقارن شوارعها (الحمرا خاصة) بشوارع ومقاهي مدن أوروبية جميلة.
هذا سؤال يستدعي الكثير من المناقشات والجدل الذي يمكن أن يقودنا، من منظور أول، إلى نظرية الفيلسوف الاجتماعي العراقي، علي الوردي، الذي لاحظ quot;ازدواجية الشخصية العراقيةquot;، بمعنى الشرخ المؤلم الذي تعانيه وتئن تحت وطأته بين الانتماء للمدينة من ناحية، وبين الولاء لقيم البداوة من الناحية الثانية. أهمية هذه النظرية الوردية، برأيي، لا تنطلق من رصد الشخصية المدينية العراقية فقط، إذ إن الازدواج لا يتحدد بابن بغداد أو الموصل فقط، لأنه ينطبق كذلك على أبناء دمشق وعمّان والقاهرة وبيروت من بين سواها من المدن العربية التي لم تفلح الحياة في دواخلها من تنقية الإنسان المديني العربي من قيم البداوة المختفية في أعماق أعماقها. إن الأدلة على ما نذهب إليه اليوم من توسيع وتعميم لنظرية الوردي على جميع دول الشرق الأوسط تأخذ مدياتها كاملة في حنين الإنسان المديني في أغلب المدن العربية لأخلاقيات الصحراء، وتسييده لها بدلاً من تسييد قيم الحاضرة والمدينة. هذه القيم الصحراوية الجرداء تتجسد، ليس فقط في الاعتزاز والتباهي الذي يعكسه الإنسان المديني العربي بانتسابه للصحراء، بل كذلك في الاهتمام الذي يخص به سكان المدن العربية الألقاب العشائرية والقبلية، وهي من بقايا سيادة روح القبيلة في البادية وعصبياتها، الأمر الذي يدل، كما أرى، أن البادية هي التي تحكم المدينة في العالم العربي، ولذا كانت قيم الثأر والانتقام وغسل العار والاستخدام القسري المهين للمرأة كـlaquo;ديةquot; أو كأداة لتصفية النزاعات القبلية ولتسوية الخلافات العشائرية والعائلية!
لاحظ، في هذا السياق، دموية طرائق تسوية الحسابات في المدن العربية، ولاحظ كذلك رفع الكلفة مع القانون وأدوات تنفيذه كالشرطة والجيش والدرك. الإنسان المديني العربي يفضل تصفية حساباته بنفسه لأنه لم يزل يشعر بحماية الجار وابن العم، وهي الأهم من حماية القانون والجيش والشرطة بالنسبة له، ولا داعي للرجوع إلى عدد كبير من الأحداث الدموية التي عصفت بمدن عربية بسبب تفضيل الإنسان العربي، بغض النظر عن دينه أو ولائه المذهبي، وأدواته الخاصة لتصفية الحسابات. هذه عدالة البادية المستوحاة من خلو البادية من السلطة المركزية. إذا كانت هذه هي الآفاق الواسعة التي قد يقودنا إليها عقل الوردي الذكي (لاحظ تعدد الدهاليز والمنعطفات الفكرية التي يمكن أن تظهر لنا)، فإن علينا أن نرد معضلة هيمنة القرية أو سيادتها على المدينة العربية إلى أصل آخر، وهو: أن الغالبية العظمى من المدن العربية إنما كانت قرى لم تلبث وأن تضخمت على حساب جوارها الريفي لتضم الريفيين وقيمهم إلى دواخلها، كي تخرج من ناحية ثانية quot;قرية متوسعةquot;، قرية يفضل سكانها تربية الخيول والأبقار والنعاج على التعامل مع السيارة ووسائل النقل العام، من الطائرة إلى القاطرة والترمواي، بينما يستبدلون الديوانيات بالمقاهي وألعابها.
أعتقد أن علينا جميعاً ونحن نقود سياراتنا في شوارع مدن زاهرة كمسقط أو دبي أو الرياض، أقول علينا أن نعيد تقييم الذات، ليس فقط في قوة وسيادة قيم القرية وأنماطها السلوكية (وهي قيم وأنماط طالما تبخترنا بالمحافظة عليها تحت عناوين من نوع quot;نظرية التراثquot;!). هي أنماط سلوكية يمكن أن يحسدنا عليها أهل البادية بسبب تفوقها على أنماط السلوك البدوي في القفار حيث الأرض اليباب التي لا تتيح لساكنها شيئاً قط سوى الاستذكارات والتأمل والشعر المتناغم مع ذبذبة حركة الجمل.
هذه أسئلة تقودنا كذلك إلى سؤال أكثر أهمية، وهو: هل المدينة العربية تحكم نفسها بنفسها، أم أن القرية أو البادية هي التي تحكمها؟ هل أن الأنظمة السائدة في هذه المدن يقودها quot;مدنيونquot; بالمعنى الصحيح للكلمة، من نواحي القيم المستنيرة في دواخلهم ومن نواحي آفاقهم الفكرية والثقافية؟، أم أن أغلب هؤلاء يحتفظون بقيم لا مدنية؟، بل قروية غير قادرة على تحمل التوسع المدني أو المديني الذي يطرأ على العقليات قبل أن يتجسد في بناء الجامعات الكبيرة والأبراج العالية، من بين سواها من مشتملات المدن الغربية، كالمراقص والنوادي الليلية وكظواهر الاختلاط في جميع نواحي الحياة. هي أسئلة تستحق التأمل والارتدادات الفكرية الذكية.