منبر الحرية


عند قراءة تاريخ الإنسان، قراءةً دقيقة وبتمعن، والنظر للإنسان ذي الحوامل المعرفية التي تحمل في طياتها الكثير من الإشكاليات، تظهر قضية الخوف، تلك التي قال عنها ديورانت في كتابه قصة الحضارة: laquo;الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي. وتتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون. وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارهاraquo;، فإشكالية الخوف بين الشرق والغرب، حيث يولد التساؤل من رحم الخوف: لماذا الخوف لدى الشرق هو دائماً عامل ودافع للتراجع والتخلف، بينما الخوف في الغرب كان العامل الداعم في عملية التطور والازدهار؟
من هذا المنطلق نجد أنه ثمة عوامل لإشكالية للخوف، وثمة علاقة بين الخوفين بشكل يثير السخرية والدهشة، رغم التباين بين الخوفين في مراحله البدائية، من خلال الماورائيات في تفسير مسيرة الكون، هذه الدهشة التي تمت بين الخوفين والشرخ الواسع بينهما، تُوصل لعدم قبول الغرب هجرة الشرقيين إليه، ومخاوف الشرق من توافد الغرب إليه، فمشكلة وإشكالية الخوف قائمة بين الشرق والغرب بحد ذاته، فالخوف في الشرق مخاوف مركبة (مخاوف ذات موروث ثقافي، مخاوف ذات أبعاد دينية، ومخاوف من الأنظمة الحاكمة في الشرق ذات الطابع الاستبدادي)، رغم ما يملكه الشرق من إرث حضاري والذي أسهم في وقت ما في خدمة البشرية في الفلك والرياضيات والهندسة، فإن تلك المخاوف استطاعت أن تجعل الفرد في الشرق أسير تلك المخاوف، فالخوف من الموروث الثقافي مثلاً في الشرق جعل الفرد لا يستطيع الغناء خارج ذاك السرب الذي ينتمي له ولا بمقدوره التمرد على ذاك السرب بأن يحلق خارجه، ولأنه على يقين بأنه إذا طار خارج السرب، سوف يرميه العقل خارجاً، وعلى اعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي، سيبقى وحيداً يضربه هاجس الجنون وهو في عزلة اجتماعية، ويأتي العامل الديني الذي يحتوي في طياته الموروث الثقافي والاجتماعي المسيطر على العقل الجمعي الشرقي والذي ينظم ويرتب الحياة في الشرق ويتدخل في أبسط تفاصيل الحياة لدى الشرق، حتى يصبح الفرد أسير المعتقد الديني، وبأن هناك حياة غير التي نحياها ستعوضنا عن ملذات الحياة.. إنها (الجنة، حيث الرفاهية التامة وكل ما نشتهي)، وبالتقاء المخاوف ذات الطابع الديني مع مخاوف الموروث الثقافي في الشرق يظهر الخوف الأكبر ألا وهو الخوف من السلطة، ومخاوف الشرق من أنظمتها الحاكمة والتي تستثمر جميع المخاوف لتنفرد بتسلطها على شعوبها، الأنظمة ذات الطابع الاستبدادي والتي تكون البديل المفكر عن شعوبها بل وحتى المسؤولة عن أحلامها.
الخوف من السلطة من المخاوف التي اختزلت جميع المخاوف لتستمر على حساب شعوبها، إنها السلطة التي تعتقد أنها هي الحاكمية على الأرض وشرعيتها مستمدة من الآلهة، فسيطر الخوف على الفرد الشرقي من السلطة، حتى بات لا يستطيع أن يحاور ذاته بصوت خافت، خاصة أن السلطة تترقب أبسط تفاصيل حياته التي تتعارض مع بقائه.
فمخاوف الشرق التي ذكرت كانت عاملاً هاماً في تخلفه وعدم مواكبته حركة العالم، وبينما الشرق يتنقل بين مخاوفه وبشكل اعتيادي حتى أصبحت هناك ألفة بين الذات الإبداعية والخوف، نجد بأن الشِق الآخر للشرق، ألا وهو الغرب، كان الخوف لديه داعماً دائماً وأبداً للتقدم والتطور والازدهار.
يتجلى الخوف في الغرب بمخاوف (بيئية، الأوبئة، لغوية، انقراض الحيوانات.. وإلخ) وهو ما جعل هذا الخوف يسهم في جعل العقل الغربي يتحرر من خوفه الداخلي وربطه بعامل التطور، وإعطاء الدافع لعملية التحليل والتركيب حتى تتمكن من التفسير، ففي الغرب الخوف من الكوارث البيئية مثلاً يدعمه ليعطي كل ما لديه من معرفة، واضعاً بذلك آليات وقرارات مدروسة لتجاوز الكارثة البيئية التي تعرض مستقبلهم للخطر، الغرب يستهلك الملايين من الدولارات ليحمي حيوانا من الانقراض، ومستعد دائما -في شرائعه ودساتيره- لوضع قوانين تحمي حتى الحيوانات من التعرض للأذى، فكيف يكون الفرد لدى الغرب إذ كان دستوره يحمي الحيوان؟!
ومن مخاوف الغرب أيضاً الخوف من اندثار لغة من لغات العالم وليس غريباً على الحكومة البريطانية التي تعزز تعدد الثقافات أن تحمي الإثنيات والأقليات العرقية والدينية كلغة الغال حيث أنفقت الحكومة البريطانية ما يعادل 250 مليون جنيه كي لا تزول لغة كلغة الغال.
فالخوف إذن لدى الغرب من الكوارث الطبيعية والبيئية والإنسانية كان داعما لفهم الحياة وازدهارها، مما جعل الفرد الغربي يتحرر من مخاوفه ليبني عليها أملا جديدا للحياة البشرية والاستمرار الطبيعي ولجميع كائناته، وهذا ما يجعل الخوف للغرب قوة داعمة للتطور، ومن خلال ما سردناه من إشكالية الخوف في الشرق والغرب والفرق الواسع بين الخوفين، ظل الخوف الأول والذي أسر فرده داخل مخاوفه ومخاوف مجتمعه، ذات الجذر والموروث الديني والثقافي، وبالتالي كان الخوف في الشرق عاملاً لتخلفه وعدم تفسيره لمخاوفه، بينما كان الثاني محرراً لفرده من مخاوفه والتي كانت كما تطرقنا إليها ذات الحامل (بيئي، طبيعي، وبائي... وإلخ)، داعماً لتطور الحياة في الغرب، فشتان ما بين الخوفين.