إبراهيم أبراش


يشعر الكاتب الفلسطيني والعربي عموماً كما يشعر القارئ بالإحراج من كثرة المقارنات بين ما يجري في إسرائيل وما يجري في فلسطين والعالم والعربي؛ حيث تكون الأفضلية دائما للجانب الإسرائيلي، سواء كانت المقارنة تتعلق بإدارة أمور الدولة والممارسة الديمقراطية أو بالتعليم والثقافة أو بالعلاقة بين الحكومة والأحزاب أو بإدارة أزمة الصراع في المنطقة إلخ. واليوم سنلجأ للمقارنة مرة أخرى فيما يتعلق بكيفية إدارة ملف المفاوضات وموضوع الاستيطان، ومدخلنا لذلك حدثان متزامنان وقعا يوم 25 من الشهر الجاري ومع أنهما تكررا قبل ذلك كثيرا إلا أن الظرفية التي تمر بها القضية الوطنية تجعل لهما دلالات خطيرة وتستدعي قراءة معمقة لهما:
الأول: أجهزة الأمن الفلسطينية في رام الله تقوم باقتحام قاعة البروتستانت التي كانت معدّة لاحتضان ندوة دعت إليها قوى وطنية فلسطينية ومستقلون للإعلان عن رفضهم للعودة للمفاوضات من دون مرجعية وقبل وقف الاستيطان، وللتذكير فإن هذه القوى من داخل بيت الشرعية الفلسطينية، وموقفها الذي أرادت التعبير عنه هو نفسه موقف الرئيس أبومازن عندما أوقف المفاوضات مشترطا هذين الشرطين قبل العودة لها. وقد حالت هذه الأجهزة وعقد المؤتمر بطريقة مثيرة للسخرية والغضب ولا تليق بأجهزة حكومة يُفترض أنها تمثل كل الشعب.
الثاني: مستوطنون في حي سلوان في القدس المحتلة قاموا باقتحام منازل للفلسطينيين وإحراقها والاعتداء على مسجد في ظل صمت الشرطة والجيش الإسرائيلي، بل تقديم الدعم غير المباشر لهم، وليست هذه المرة الأولى التي يقوم بها مستوطنون بمثل هذه الاعتداءات سواء في القدس أو في الضفة، وفي جميع الحالات يجدون دعما من الشرطة والجيش الصهيوني.
لن نعيد تكرار ما هو معروف من تواطؤ الجيش الإسرائيلي مع المستوطنين، بل إن كثيرا من الاعتداءات تكون بإيعاز من الحكومة ومن سياسيين بهدف خلق حالة من التوتر يوظفونها على طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين وفي حواراتهم مع الأميركيين والأوروبيين للزعم بأن هناك رأيا عاما إسرائيليا يرفض وقف الاستيطان، ومستعد للدخول في مواجهات دامية.
هذا يعني أن السياسيين الإسرائيليين يوظفون مواقف قوى المعارضة الرافضة لوقف أو تجميد الاستيطان وممارساتها كورقة لتعزيز مواقفهم التفاوضية الرافضة لوقف أو تجميد الاستيطان، بل الرافضة لمجمل نهج السلام، وفي هذا السياق نلاحظ تزايد اعتداءات المستوطنين في الفترة الأخيرة التي يحتدم فيها النقاش حول تجميد الاستيطان والعودة لطاولة المفاوضات.
لقد بات معروفاً أن الإسرائيليين يختلفون وبعضهم البعض في كثير من القضايا ولكنهم يتفقون فيما يتعلق بمواجهة الفلسطينيين وفي الموقف من الاستيطان.
في المقابل، تمنع أجهزة أمن السلطة مواطنين من مجرد التعبير السلمي عن رأيهم الرافض للعودة للمفاوضات من دون ضمانات. يحدث هذا التصرف في وقت يتهيأ فيه المفاوضون الفلسطينيون للدخول بجولة جديدة من المفاوضات، ولا ندري ما هي أوراق القوة التي سيلوّح بها المفاوض الفلسطيني في مواجهة الإسرائيليين وهو يجرد نفسه من أهم ورقة وهي وحدة الموقف الفلسطيني حول موضوع الاستيطان؟
الرفض الشعبي للعودة للمفاوضات ورقة قوة للمفاوض الفلسطيني وليس ورقة ضعف كما يعتقد الذين منعوا عقد مؤتمر رام الله. كنا نتوقع من السلطة والمنظمة وحركة فتح قبيل بدء المفاوضات، إن كان لا بد منها وما داموا مضطرين لها بفعل الضغوط الخارجية كما يقولون، أن يحرضوا الشارع الفلسطيني ضد الاستيطان وأن يوعزوا للناس بالخروج بمسيرات ومظاهرات داخل الوطن وخارجه ضد سياسة الاستيطان وضد الضغوط الممارسة على القيادة للعودة لطاولة المفاوضات، وأن يوظف المفاوض الفلسطيني هذا الرفض ليقول لتل أبيب وواشنطن والرباعية إنه يمثل شعبا مُجمِعاً على رفض سياسة الاستيطان، أما أن تقمع أجهزة الأمن مواطنين يقولون لا للاستيطان في الوقت الذي يذهب نتنياهو للمفاوضات مثقلا بمطالب المستوطنين وتهديداتهم وبمعارضة واسعة لسياسة تجميد الاستيطان، فهذا معناه خسارة المفاوض الفلسطيني لمعركة المفاوضات قبل أن تبدأ.
نقول هذا ونحن من المؤيدين لاستراتيجية ولمشروع السلام الفلسطيني الذي رفعه الراحل ياسر عرفات، نقول هذا ولدينا تحفظات كثيرة على (المعارضة) الفلسطينية وسلوكياتها وشطحاتها، نقول هذا ونحن ندرك حاجة أهلنا في الضفة للأمن والاستقرار...إلخ، ولكن ما تقوم به الأجهزة الأمنية هناك يتجاوز أحيانا متطلبات أمن المواطن والوطن، ويتجاوز استحقاقات مشروع السلام الفلسطيني، بل ويتجاوز ما يقول به الدكتور فياض من بناء مؤسسات الوطن، لأن بناء مؤسسات وطن ما زال تحت الاحتلال يحتاج لما هو أكثر من راتب ورصف شارع هنا وبناء مدرسة هناك، فهذه أمور لم تتوقف يوما منذ مجيء السلطة بل وقبل مجيئها، بناء الوطن يحتاج لحرية الرأي والتعبير ويحتاج لثقافة ممانعة ومواجهة ويحتاج لجبهة وطنية موحدة في مواجهة الاستيطان والمستوطنين واستفزازات جيش الاحتلال.
لقد رفعت السلطة وحركة فتح شعار المقاومة الشعبية وذلك ردا على القائلين بأن السلطة تخلت عن المقاومة وتطارد المقاومين، وقد استحسنّا خيار المقاومة الشعبية تجنباً لحالات انفلات حدثت في غزة وفي الضفة تحت شعار الجهاد والمقاومة المسلحة وقدسية السلاح إلخ، لأن المقاومة الشعبية تعني توظيف قوة الجماهير لمواجهة المستوطنين وجيش الاحتلال الذي يسرح ويمرح في كل ربوع الضفة، كنا نتوقع خروج الجماهير بعشرات إن لم يكن بمئات الآلاف بمسيرات عند نقاط الاستيطان وحواجز الجيش وجدار الفصل العنصري، ولكن للأسف لم نر من هذه المقاومة الشعبية إلا مسيرتين أو ثلاثاً بعشرات الأشخاص، مسيرات مبرمجة وبأماكن محددة ومغطاة تلفزيونيا بشكل جيد وعلى رأسها أعضاء بمركزية فتح وتنفيذية المنظمة يتلفعون بالكوفية وبكسكيت يحمي بشرتهم الناعمة من حر الشمس، ثم بعد ذلك لم نسمع أو نشاهد ما يدل على وجود مقاومة شعبية.
قد يقول قائل: من الصعب تسيير مسيرات كبيرة العدد حتى لا يُستفز جيش الاحتلال والمستوطنون، أو يتسلل لهذه المسيرات عناصر معادية للسلطة من حماس وغيرها، ومع أن هذا القول مردود عليه فكيف تكون مقاومة شعبية من دون التصادم مع الاحتلال وقطعان المستوطنين؟ وكيف تكون مقاومة شعبية إن لم يُجند فيها كل الشعب؟ ومع ذلك فسنسلم به وسنقبل من المقاومة الشعبية بأضعف الإيمان وهو قول كلمة حق وما تقول به القوى والشخصيات التي كانت تعتزم تنظيم ندوة رام الله هي كلمة حق -رفض العودة للمفاوضات من دون مرجعية وبدون وقف الاستيطان- ما دام يعبر عن إجماع شعبي بما في ذلك قواعد حركة فتح وقيادات فيها.
لا يمكن تبرير بعض ممارسات الأجهزة الأمنية في الضفة ضد من يختلف معها، وبعضهم من داخل منظمة التحرير كالذين دعوا للمؤتمر، بما تمارسه حركة حماس في غزة ضد معارضيها، خصوصا من حركة فتح، فحركة حماس تقود حكومة انقلابية وأيديولوجيتها ومشروعها لا يمكن أن يؤسسا إلا نظاماً شمولياً لا يقبل الرأي الآخر، هذا ناهيك أن لا مراهنة عليها لقيادة الشعب الفلسطيني والمشروع الوطني، فيما يُفترض أن النظام القائم في الضفة -حكومة ومنظمة تحرير وحركة فتح- يمثل الشرعية والمشروع الوطني، فلا يجوز أن تكون تصرفات الشرعي ردة فعل على تصرفات غير الشرعي ومن باب المعاملة بالمثل، لا يجوز لحكومة تقول إنها شرعية أن تمارس ما تمارسه حكومة خرجت على الشرعية! أيضا لا يجوز تبرير كل تصرف للأجهزة الأمنية في الضفة بالخوف من سيطرة حماس على الضفة كما جرى في غزة، فنحن ندرك كما يدرك غيرنا أن غزة سُلمت لحماس وبتواطؤ قيادات كبيرة في فتح والسلطة في إطار مؤامرة كبرى على المشروع الوطني شاركت فيها إسرائيل، وبالتالي لن يتكرر سيناريو غزة في الضفة فإسرائيل تريد الضفة لها وحدها.
لقد أصبحت المفاوضات معركة مصيرية للشعب الفلسطيني ما دامت تدور حول قضايا الوضع النهائي التي ستحدد مصير القضية، ولذا يجب إشراك كل الشعب في موضوع المفاوضات ليكون له رأي فيها، ولا يجوز أن يبقى المفاوض الفلسطيني خالدا مخلدا يقود المفاوضات بالفهلوة اللفظية منفصلا عن الشعب وقواه السياسية حتى التي تؤمن بالسلام العادل، وعلى القيادة الفلسطينية أن تعلم أن علاقة الصداقة والمصالح القائمة ما بين الفريق الفلسطيني المفاوض والإسرائيليين تُضعف من قوة المفاوض الفلسطيني على طاولة المفاوضات.
ومن جهة أخرى، فإن ما يجري في الضفة يستدعي التساؤل حول مرجعية الأجهزة الأمنية، هل هي اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية؟ هل هي حركة فتح؟ هل هي الحكومة برئاسة الدكتور فياض؟ هل هو الرئيس أبومازن؟ أم هناك مرجعية أخرى؟ وهل سلوك الأجهزة الأمنية يخدم نهج السلام الذي يقول به الرئيس أبومازن أم هو مضرٌ به ويخدم سياسات أخرى؟